السبت 2024/04/27

آخر تحديث: 07:44 (بيروت)

أردوغان في ضيافة بارزاني:إنها السياسة

السبت 2024/04/27
أردوغان في ضيافة بارزاني:إنها السياسة
increase حجم الخط decrease

مساء الاثنين حطت طائرة أردوغان في أربيل قادماً من بغداد، بعدما أُحيطت زيارته منذ أسابيع باهتمام بالغ ووصفت بأنها استثنائية. فالزيارة هي الأولى له منذ 13 عاماً، واستبقتها اجتماعات تحضيرية أكثر عدداً وأهمية مما تكون عليه قبيل الزيارات العادية للرؤساء. ومن المعلوم أن التحضيرات انصبّت على محورين، المحور الاقتصادي الذي يُراد تنميته باتفاقيات جديدة طموحة، فضلاً عن تفعيل العمل باتفاقيات مجمّدة، أهمها إعادة تصدير النفط من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي. المحور الثاني هو التنسيق الأمني بين أنقرة وبغداد وأربيل، ويتعلق بملاحقة حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من أراضي الإقليم قاعدة لحربه على الحكم في تركيا. 

لإقليم كردستان مكانة مركزية في الاتفاقيات بين أنقرة وبغداد، فالطريق البري بينهما يمرّ عبره، والاستثمارات التركية في الإقليم هي الأضخم بين الاستثمارات الأجنبية، وقد تتجاوز نصف إجمالي الأخيرة. أي أن زيارة الرئيس التركي أربيل لها ما يبررها في المصالح الاقتصادية بين الجارين، وسيطرة حزب العمال الكردستاني على مساحات ضمن الإقليم لا ترضي قيادته، حتى إذا كان السيد بارزاني لا يشاطر تماماً ضيفه التركي هواجسه إزاء الحزب.

ثمة أمر آخر جدير بالإشارة، هو أن زيارة أردوغان هي الأولى بعد فشل مشروع استقلال الإقليم، رغم أن فكرة الاستقلال حازت على أصوات أغلبية المقترعين في استفتاء شعبي عليه. صحيح أن سنوات سبع مرّت على ذلك إلا أن الموقف التركي المعارض بشدة لاستقلال الإقليم ما يزال ماثلاً في الأذهان، وهو ماثل إلى حد كبير كموقف لن يتغير في المدى المنظور.

إنها المصالح.. إنها السياسة. ليست فقط التي طوت منذ سنوات صفحة الجفاء على خلفية معارضة أنقرة استقلال الإقليم، وإنما أيضاً التي جمعت أردوغان ببارزاني في أربيل، رغم أن الأول منهما يلوّح بحرب قريبة لاستئصال حزب العمال الكردستاني. هي لغة الواقع التي تجعل قيادة الإقليم "ممثِّلة لأكراد العراق" قليلة الاكتراث بمصير حزب العمال الذي يقدّم نفسه ممثِّلاً لأكراد تركيا، بل تستضيف في أربيل الرئيس التركي الذي يتوعّد بالحرب على مَن يُفترض أنهم أشقاء أتراك.

لم يكن الاعتبار الأخير غائباً عن أكراد سوريين انتقدوا استقبال أردوغان في أربيل، بل اعتبروه "ولو مواربةً" خيانة للقضية القومية الكردية. بينما أعلى أكراد آخرون من القيمة الرمزية لصورة الاجتماع الرسمي بين نيجيرفان بارزاني وأردوغان، حيث يحضر العلم الكردي في الخلفية إلى جانب العلمين التركي والعراقي، وتبرز على نحو خاص صورة الجد الملا مصطفى بارزاني المعلّقة على الحائط، ليبدو أردوغان وقد انصاع "بحكم السياسة أيضاً" للجلوس في قاعة يتصدرها رمزان كرديان تاريخيان.

من المتوقع أن ينظر أكراد العراق إلى استقبال أردوغان في أربيل كحدث يتماشى مع الاعتبارات الوطنية للإقليم، حتى إذا كان له معنى يفوق الزيارات المعتادة لمسؤولين دوليين. ومن المتوقع أيضاً ألا ينظر قسم كبير من أكراد تركيا بحساسية إلى استقبال أردوغان في أربيل، وقد يُستثنى منهم أنصار حزب العمال لأنه معني بالتنسيق الأمني بين أنقرة وأربيل وأنقرة وبغداد، أي أن الحساسية غير نابعة أيضاً من عتب قومي. 

وحسب الأدبيات المعروفة، لم تطرح الزعامة البارزانية التاريخية نفسها ممثّلة لعموم الأكراد، ومنهم أكراد تركيا على نحو خاص. ورغم تطرق أدبيات حزب العمال الكردستاني المبكرة إلى الأوضاع الكردية عموماً، وطموح زعامته إلى احتكار التمثيل الكردي في المنطقة، فإن قياداته تطرح القضية الكردية في تركيا على أنها القضية المركزية للحزب وللأكراد عموماً. ولطالما صمتت الأدبيات المذكورة عن القضية الكردية في إقليم كردستان، بينما نصّت بوضوح على أن الاستحقاق الكردي في إيران وسوريا ليس من طبيعة الاستحقاق "الجذري" في تركيا. ومن المعلوم أن حزب العمال، لقاء رؤيته تلك، حظي بدعم من الأسد وبدعم إيراني هو الأقوى حالياً، بما في ذلك تمكينه من التمترس في مواقع ضمن إقليم كردستان، بينما ينجح حكام طهران إلى حد كبير في تغييب القضية الكردية في إيران.

في المحصلة يظهر الجدل القومي الكردي كأنه شأن كردي سوري، بينما يغيب في أربيل وديار بكر. هذا لا يعني نفي وجود المشاعر القومية، ربما على نحو خاص ما أبداه إقليم كردستان تجاه اللاجئين إليه من أكراد سوريا، في حين كان حزب العمال منخرطاً عبر فرعه السوري في مجريات الحرب فيها. ومن المعلوم أن الانقسام بين أربيل وقنديل، حيث تتمركز قوات حزب العمال، قد أرخى بثقله على الساحة الكردية السورية المنقسمة بينهما، ولم تنجح وساطة أربيل في الجمع بين التنظيمات الكردية السورية على رؤية موحَّدة.

ما تقوله القسمة السابقة أن المركزين الكرديين في العراق وتركيا هما الأقوى، والعلاقة بينهما صراعية، ولا طرف منهما تشغله حقاً القضية الكردية بوصفها قضية قومية تشمل كردستان الكبرى كما يراها بعض القوميين. نخصّ بالذكر القوميين من أكراد سوريا لأن نسبة غالبة منهم تعبّر عن تعلّقها بالأهداف القومية، ولأن الأحزاب الكردية السورية بمعظمها مرتبطة أو تابعة لواحد من المركزين العراقي أو التركي، مع غلبة للثاني منهما بحكم سيطرته الميدانية عبر الفرع السوري لحزب العمال.

وثمة ما يستوجب التفكير في التقاء أنصار الفرع السوري للحزب مع طموح قادته الأتراك إلى التوسع، فالتكامل هنا بين قوي ينزع إلى الهيمنة وضعيف يتوسّل القوة من خلال "الشقيق" الأقوى، ليكون اعتناق الأيديولوجيا القومية من جهة الضعيف خلاصاً فكرياً سهلاً من ضعفه. لقد حدث شيء مشابه في التاريخ السوري عندما توسّل القوميون العرب السوريون الوحدة مع مصر الناصرية، فدخلوا عهد الوحدة من موقع الضعف بينما قبِل بها عبدالناصر من موقع الزعامة والهيمنة، ليأتي الفشل نتيجة حتمية لهذا الاختلال بين الموقعيْن.

تشابه آخر مع الحالة العربية طرحته الأدبيات المبكرة لحزب العمال الكردستاني، هو اعتبار القضية الكردية بمثابة القضية المركزية لعموم الأكراد، على غرار ما كان يُحكى عن القضية الفلسطينية عربياً. لقد تُرجم هذا الطرح بآلاف المقاتلات والمقاتلين من أكراد سوريا الذين قاتلوا أو ضحّوا بأرواحهم في القتال على الجبهة التركية بدءاً من ثمانينات القرن الماضي، وإن كان من أثر ما لهؤلاء فهو يصبّ حصراً لصالح الموضوع الكردي في تركيا عندما تحين لحظة الحل في تركيا نفسها.

لو كان أكراد سوريا استثناءً من الضعف السوري العام لما أثارت صورة أردوغان في أربيل انتباههم، ولما استُخدمت كتعبير عن الاستقطاب الذي يتحكم بهم، الاستقطاب الذي لا يوجد مؤشّر على زوال جذوره حتى تقتضي السياسة أن يجتمع أردوغان وأوجلان في صورة تذكارية.        

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها