للمرة الاولى منذ بدء التدوين الجغرافي-السياسي لتاريخ الشرق، تستعيد عبارة "الغرب" دقتها وواقعيتها وصوابية استخدامها في اللغة المحكية وفي خطاب النخبة، على جانبي خطوط الجبهة في حرب غزة، التي أسفرت حتى الآن عن خسارة سياسية فادحة للمشرقيين والمغاربة أيضا، هي خسارتهم لأوروبا، القارة المجاورة التي ارتبطوا معها بعلاقات واقعية متوازنة ومثمرة، كان يفترض انها ساهمت في تجاوز حقبة الاستعمار وفي ترسيخ المصالحة التاريخية الناجزة.
فجأة قررت أوروبا، وبالاجماع، ان تمحو هذا التاريخ المشترك، الذي لم ولن يتصل بالولايات المتحدة الاميركية، وان ترجع بالزمن الى اربعينات القرن الماضي، أو حتى الى نهايات القرن التاسع عشر، عندما انجبت القارة العجوز الحركة الصهيونية وأرسلتها الى المشرق العربي، لتكون وريثتها وطليعتها وحامية مصالحها الدائمة. القرار الذي لا يستثنى منه سوى الموقف الاسباني البراغماتي، لم يسجل مثله في الحرب الروسية الغاشمة علىى اوكرانيا، ولم تجادل تبعاته وخلفياته واكلافه، مثلما تجادل تبعات الحرب الاوكرانية، بدأ تنفيذه على الفور، من خلال توفير غطاء سياسي وعسكري وثقافي لإسرائيل.. كما لم يسبق ان فعل الاوروبيون منذ إعلان قيام الدولة اليهودية.
فجأة، قررت أوروبا أن تلتحق بأميركا وأن تسابقها في الدفاع عن الاسرائيليين الذين كان الاميركيون والاوروبيون أنفسهم يضعونها في قفص الاتهام بالعنصرية والفاشية، ويمنعون كبار مسؤوليهم وسياسييهم من دخول دول القارتين ويهددونهم بالاعتقال المحاكمة والسجن، من رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو الى الوزيرين ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ويعبرون عن ضيقهم من تلك الدولة اليهودية التي تحولت في الاونة الاخيرة الى عبء اخلاقي على الغرب عموما، تسيء الى مصالحها ومستقبلها، بانكارها وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة.
فعلا، ليس هناك مبرر مفهوم لذلك الاحتضان الاوروبي لاسرائيل، سوى بالاحالة الى التاريخ السياسي القريب، الذي يحيي تجربة الاستعمار التي كان يفترض أنها مضت، ويطلق العنان لموجة كراهية متبادلة، لن يستفيد منها سوى العنصريين الاوروبيين، والاسلاميين من انصاف الاميين الذين بدأوا في استحضار الحروب الصليبية نفسها، والاستعداد للخروج الى الشواطىء الشرقية للمتوسط لملاقاة السفن الحربية الاوروبية المحملة بالجنود الصليبيين.
"طوفان الاقصى"، حجة اوروبية ضعيفة، حتى ولو كان لاوروبا قتلى وأسرى (أو رهائن حسب التعبير الغربي الشائع) في حرب غزة. وكذا الامر بالنسبة الى فكرة ان اسرائيل كانت على وشك الزوال من الوجود، وهي فكرة يروج لها الاسرائيليون انفسهم لاخفاء فضيحة فرارهم من القتال أمام العشرات من المحاربين المسلحين تسليحاً متواضعاً جدا، بالمقارنة مع التسليح الاسرائييلي، والذين تمكنوا خلال ساعات من السيطرة على مساحة واسعة من الارض تفوق مساحة قطاع غزة نفسه.
في ضعف الحجة وفي قوة المفاجأة، يمكن بسهولة القول انه كان متوقعا من أوروبا بالذات، أن تنأى بنفسها عن الموقف والخطاب الاميركي المعادي والفظ والمشارك مباشرة في الحرب، وأن تلتزم كعادتها دائما، بموقف متوازن، يتيح لها على الاقل أن تدين هجمات حماس على المدنيين، وأن تطالبها باطلاق سراح الاسرى من النساء والاطفال، بلا مساومة، بحيث تصبح أوروبا مؤهلة للتفاوض على تحريرهم، وبالتالي على وقف دوامة العنف التي يفرضها "الدواعش الاسرائيليون" على الفلسطينيين وعلى العالم كله، منذ أن شكلوا حكومة منبوذة لا تستوفي معايير الغرب السياسية قبل الشرق طبعا.
حالة الجنون التي تصيب أوروبا هذه الايام، هي واحدة من أكبر الخسائر الفلسطينية والعربية في حرب غزة الحالية: ليس من المطمئن أبداً ، ولا من الآمن طبعا أن يكتشف الشرق أن الغرب موحد الى هذا الحد ، أكثر من أي وقت مضى في تاريخه الحديث، وأن أوروبا بالذات ما زالت تقيم هناك ، ما بين مؤتمر بازل، وإعلان قيام اسرائيل، كدولة لاجئين صارت معسكراً للفاشيين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها