رغم الأوضاع المعيشية المتدهورة، ثارت ضجة كبيرة حول قرار نقيب الفنانين منع المغنية ريم السواس من الغناء في حلب كما كان مُعدَّاً. في حيثيات القرار أن السواس امتنعت عن الذهاب إلى النقابة، كي تتعهد هناك بعدم استخدام ألفاظ نابية أو هابطة في حفلتها كما سبق أن فعلت في حفلات سابقة. مسؤولون في حلب لاقوا القرارَ بالتذكير بمكانة المدينة العريقة في الغناء، وبأن عقوداً غابرة شهدت قدوم مطربين عرب كبار للغناء فيها. هكذا كأنما استفاق النقيب فجأة، أو لما لحلب من حساسية غنائية، فمنعَ حفلة السواس بعدما أحيت حفلات في اللاذقية وطرطوس ووادي النصارى على سبيل المثال. وهو، في أحسن الظنون، يريد الظهور كنظيره المصري هاني شاكر، بعد إثارة الأخير ضجة بسبب قرار مشابه طال خاصة ما يُعرف بمغنيي المهرجانات.
ربما تكون حفلة اللاذقية حديثة العهد جداً، فالسواس نشرتها على قناتها في يوتيوب في الثامن من الشهر الحالي، وحظي التسجيل حتى الآن بما يزيد عن أربعة ملايين وثلاثمائة ألف مشاهدة. في هذا التسجيل، كما في حفلتي طرطوس ووادي النصارى، تؤدي السواس "أغنيتها" الشهيرة "أكبر غلطة بحياتي حبّيت واحد واطي"، وهي التي اتُخذت مثالاً على البذاءة. ولو أخذنا الأمر على محمل الجد، يجوز لنا التساؤل عما إذا كانت هذه الأغنية تفوق بالبذاءة أغنية عنوانها "كيماوي" للسوري وفيق حبيب، يستهلها بالقول: اجرحْ لي قلبي ولا تداوي.. ورشّ عليّ كيماوي.. بس لا تقلي واحبيبي إنك ع هجري ناوي.
لا يستطيع النقيب، ولا يريد بالطبع، منع مطرب الكيماوي من أداء أغنيته التي تذكّر باستخدام السلاح الكيماوي لقتل سوريين، حتى إذا ذهبنا مع رواية مستشارة بشار الأسد التي أعلنت آنذاك أن فصائل معارضة خطفت أطفالاً من الساحل ثم قصفتهم بالكيماوي في غوطة دمشق. ولا يريد النقيب، كما نعتقد، إعلان سبب الاستياء الحقيقي من ريم السواس، والقول أن الأخيرة تجاوزت الحدود في حفلة طرطوس 2022 مثلاً، فأعلنت نفسها "الزعيمة كالتاريخ، لا تُعاد ولا تُنسى". بل إنها شطحت بعيداً جداً بالقول: "اسمعْ مني يا ولد؛ الزعيمة أو لا أحد". فالعبارة الأخيرة، وبلا أدنى جهد للذاكرة، تعيد إلى الأذهان شعارات معروفة جداً من قبيل "الأسد أو لا أحد"، و"الأسد أو نحرق البلد".
إذاً، لدينا مداخل عديدة للنقاش والكتابة عن قرار النقيب العتيد، إلا أنها إذ تركّز عليه تغامر بتهميش صاحبة العلاقة، تلك التي حظي تسجيل واحد لها بالرقم الذي أوردناه وخلال ثلاثة أسابيع فقط. ولعل هذا الإقبال يغري بتجاوز العتبة الواطئة المتصلة بقرار النقيب التابع لمنظومة الأسد، حيث لا تكفّ الأخيرة ككل عن تقديم ما هو متهافت وبذيء ومتناقض وركيك.
يحدث مع الشهرة التي حصدتها ريم السواس بسرعة فائقة أننا نشهد رواجاً لما نقترح له تسمية "الجهادية النسوية"، وهذه ليست مصادفة كما نعتقد. السواس بَنَت شهرتها على الكلمات التي تهين الحبيب المفترض، ويُفهم أن المقصود هو الرجل، وهي تصرّح بذلك بين الحين والآخر، كما في تعقيبها على قولها "بدرب العشق ما حدا علَّم علينا"، ذلك بعد الاستهلال بـ"احنا رجَّفنا الزلم، مابو حدا يرجّفنا". والحبيب، "الواطي" بحسب مغناتها الشهيرة، هو هكذا لطبع فيه لا لأسباب قد يحيل بعضها إلى علاقة الحب التي نفترض عادة أنها متبادلة، فهي في العديد من الحفلات تؤديها بالقول: أكبر غلطة بحياتي علّيت "أعليت" واحد واطي.
الجهادية النسوية الرائجة مؤخراً تستخدم خطاباً مماثلاً، إذ يقوم في الجوهر على هجاء الرجل، أي رجل كان، بوصفه ممثلاً للرجال جميعاً. الواطي مسبقاً، بتعبير السواس، قد يُشتم بألفاظ مختلفة في الخطاب الجهادي النسوي، إلا أنه في هذا الخطاب محكوم أيضاً بجنسه، فلا يعقل أن يكون أفضل قليلاً من المكانة المنحطة التي يقررها له الخطاب. لقد رأينا على وسائل التواصل كيف قوبل رجال حاولوا القول أنهم ليسوا بذلك السوء، فالخطاب النسوي الذي لا فكاك منه، كأي خطاب جهادي تكفيري، سرعان ما انقضّ عليهم بالحجة الدامغة: أليس الإنكار أيضاً من طبع المجرم؟
قوبلت نساءٌ بعدوانية تشبه الموجهة إلى الرجال، عندما حاولن الرد على خطاب الجهادية النسوية، فهن في هذه الحالة خائنات لجنسهن. ثم إن الخطاب "الاختزالي والأحادي بطبعه" يُضطر بسببهن فقط إلى الاعتراف بوجود نساء ذكوريات، هنّ حصراً اللواتي يرفضن الخطاب المذكور. أو، بالأحرى، هن اللواتي لا يذعن لذلك الخطاب المرفوع من قبل أخريات يعتقدن أنهن أجدر بمعرفة ما هو صواب للنساء جميعاً.
قد يؤخذ على هذه المقاربة أن ريم السواس ظاهرة شعبوية ليس إلا، وهو مأخذ يتجاوز أن الظاهرة الجهادية المعاصرة "بمعناها الأوسع" شعبوية بجدارة. بل سيكون من الخطأ، إذا عدنا إلى الجهادية الأم، الظنّ أن عموم الجهاديين يحوزون على ثراء فقهي. على العكس تماماً، الشقّ التكفيري لهذه الجهادية يدحض أي تصور عن الغنى والرحابة المعرفيين.
بالمثل، تنعدم الرحابة في الخطاب الجهادي النسوي بقدر ما هو تكفيري إزاء الرجال، ومن في حكمهم من نساء خائنات لجنسهن. الانحدار إلى هذه الأحادية، التي قد نتفهم أنها بدافع الغضب المشروع أحياناً، أفقرَ ويفقر المستويات المتعددة من نضالات النساء، والتحالفات المتصلة بكل منها. نعني بذلك السعي من أجل المساواة الحقوقية مثلاً، وهو مختلف عن السعي إلى تمكين النساء، الذي بدوره يتباين بين مجتمعات أنجزت الاستحقاق الأول وأخرى لم تنجزه بعد. ثم، وهذا ليس ترتيباً للأولويات، لدينا المستوى الذي يسعى إلى تقصي الثقافة الذكورية "أينما وجدت"، لأن المساواة القانونية قد تبقى قاصرة ضمن ثقافة ذكورية مهيمنة.
لا بأس في أن تطيح ريم السواس بكل تلك التمايزات فتقدّم لنا نموذجاً غاضباً للمساواة بقولها: "واحدة واحدة؛ آني خنتك، تحرق قلبي؛ أدعس قلبك". إنها، للتأكيد مرة أخرى، تترجم بلغتها الغضب ذاته الذي يعتليه خطاب الجهادية النسوية.
ميزة السواس أنها غير واعية لذاتها على غرار صاحبات الخطاب، واللواتي يأنفن على الأرجح من شعبوية السواس الفاقعة، وهنّ في هذا يفترقن عن نظيراتهن في الغرب، اللواتي قد لا يجدن حرجاً أحياناً في تبني ظواهر فجة إذا تلاقت مع مشروعهن. يمكن مثلاً، من منظار غربي، التسامح مع فجاجة لغة السواس، وإيجاد الأعذار لفقرها اللحني، وحتى اعتبار الخلطة الصاخبة من الأورغ والطبل مع طريقة أدائها نوعاً محلياً يقترب من الراب. لو فعلت الجهاديات النسويات ذلك لما كنا مضطرين للتوضيح بأننا لا نقصد سوءاً بهذه المقاربة، إلا إذا كنا "بلا مناص" محكومين بالسوء حسب ما يقول كلّ من طرفي المقاربة بطريقته.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها