في شباط الماضي، مع معاودة المبعوث الأميركي آموس هوكشتين، وساطته، دعونا إلى خفض الرهان اللبناني
(راجع "المدن") على الغاز وصولاً إلى حد المطالبة بأن يبقى الغاز حتى إشعار آخر في جوف البحر. الحجة واضحة والمنطق بسيط. هذه السلطة، بشقّيها الرسمي والخفي، لا تؤتمن على المال العام، ولا على الموارد الطبيعية. فرغم حاجة لبنان الماسّة إلى التمويل وإلى كل دولار إضافي، فإنه ما لم يقم في لبنان حكم رشيد ونزيه وشفاف، ما لم يصبح لبنان من جديد دولة قانون ومساءلة ومحاسبة وعقاب وثواب، سيصيب الغاز من تبديد ونهب ومحاصصة، ما أصاب قبله موارد أخرى تقدر بمئات مليارات الدولارات، أدت الى افلاس الدولة والمالية العامة والنظام المصرفي معاً.
هذا كان في شباط الماضي. حينها، كان الكل يقف "خلف الدولة"، أقلّه في الكلام.
اليوم، لم يتغير الشيء الكثير في معادلة السلطة. المعارضات المتناثرة، التي نالت في الانتخابات النيابية أكثرية دفترية، لم تفلح في تغيير قواعد تشكيل السلطة، أقلّه حتى الآن، كي لا نقفل الباب تماماً على هذه الاحتمال الذي ما زال أفقه مفتوحاً، ولو بخفر شديد، من نافذة انتخابات رئاسة الجمهورية بعد بضعة أسابيع.
التقاعس او الاستنقاع الأكثري هذا، وأسبابه عديدة ومفهومة وإن تكن معظمها غير مبررة، أعاد تكريس حزب الله وصياً على السياسات العليا في لبنان، أي كما كان عليه الوضع منذ الصفقة الرئاسية العام 2016.
الجديد أنّه بعد هذا التكريس، وهو في جزء منه مضخّم وغير مستحقّ، لم يجد الحزب غضاضة ولا حرج في القفز في ملف الغاز وترسيم الحدود البحرية، خلال أيام معدودة، من "خلف الدولة" كما كان أعلن بوضوح تام، إلى فوق الدولة.. وذلك عندما دق النفير وتطلب الوضع الإقليمي ذلك. فانطلقت المسيّرات لترسم قواعد اشتباك جديدة متزامنة مع ثلاثة تطورات خارجية: تعثّر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، عودة أميركا إلى الشرق الأوسط، احتدام حرب الطاقة.
إيران تجد نفسها في صلب كل هذه التطورات وهي لن تتساهل في استخدام كل أوراقها لترجيح كفّتها داخل أي من هذه الملفات. أولاً، هي معنية بالضغط لاستئناف مفاوضات فيينا، إنما بشروطها، أي ضمانة الكونغرس لأي اتفاق نووي جديد ورفع الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب الأميركية. ثانياً، هي معنية بتوجيه رسائل التهديد والوعيد الى المجتمعين مع الرئيس جو بايدن، سواء في القدس أو في جدّة، فبرنامجها النووي وصواريخها البالستية ومسيّراتها وتمدد نفوذها الإقليمي هي كلها في رأس جدول أعمال هؤلاء المجتمعين. وثالثاً، هي معنية بالطبع بالخريطة الجديدة لمصادر الطاقة، الآخذة في التشكل في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا ومقاطعة أوروبا للغاز والنفط الروسيين، فيما إيران هي صاحبة ثالث او رابع أكبر احتياطي وقود أحفوري في العالم.
بالنسبة لحزب الله، وبالطبع بالنسبة لإيران، ليس هناك أفضل من هذا التوقيت للدخول بقوة على ملف الغاز وترسيم الحدود. تبّاً للمفاوض الرسمي اللبناني، وتبّاً لخطوط التفاوض واستراتيجية التفاوض، وتبّاً للوقوف خلف الدولة، وتبّاً للقفازات المخملية. للضرورة أحكام. والضرورة تقتضي اليوم القفز فوق كل هذه الاعتبارات الشكلية، البروتوكولية الى حد ما، التي تصلح في الوقت الضائع وليس في زمن الاستحقاقات المرافقة للتحولات الكبرى وتنظيم قواعد الحرب الباردة وارتداداتها في المنطقة!
إذن، باختصار، ملف الغاز وترسيم الحدود أفلت من يد المفاوض الرسمي اللبناني، وبات مباشرة او بالواسطة في جعبة إيران الاستراتيجية والديبلوماسية. ماذا في الانعكاس على لبنان؟
في الحديث عن الموضوع، ارتقى حزب الله الى مستوى التهديد بالحرب، واضعاً معادلة "قانا مقابل كاريش". طبعاً، التعليق الكلاسيكي على ذلك هو أن من يريد فعلا الحرب لا يهدد بها بل يذهب اليها. هذا كلام منطقي، لكن عندما تكون الأمور على هذه الدرجة من التعقيد والتداخل، من يضمن عدم الانزلاق الى نزاع مسلح؟ إن احتمالاً كهذا، بذريعة كاريش او من دونها، سيلحق بلبنان كوارث وخسائر توازي عشرات أضعاف ما قد يجنيه من الغاز لسنوات او لعقود.. وقد اختبرنا مذاق تلك الأثمان في حرب تموز. وأين نحن من تموز 2006 ومن ظروفها الداخلية والإقليمية؟
الاحتمال الثاني هو حصول تسوية كبرى مع إيران، تشمل الملف النووي والصواريخ البالستية والمسيّرات والتمدد الإقليمي. هذا الاحتمال هو أيضاً قليل الترجيح في المدى المنظور لعدم نضوج مقومات تلك التسوية. على كل، في ظل موازين القوى الحالية، فإن مثل هكذا احتمال سيكرس بقاء لبنان في دائرة النفوذ الإيراني وبالتالي سيكرّس إيران وصية على لبنان.
يبقى احتمال استمرار الستاتيكو الاقليمي الحالي لصعوبة إنضاج تسوية كبرى مع إيران او الذهاب الى حرب مباشرة معها. هذا الاحتمال، وهو الاكثر ترجيحاً، من شأنه إضعاف القيمة الاستراتيجية للغاز اللبناني. أوروبا والغرب، المبتعدان عن الغاز الروسي للأسباب المعروفة، لن يجدا جاذبية كبرى في الغاز اللبناني الخاضع لمزاج حزب الله ومن خلفه الأجندة الايرانية، فضلاً عن أن لبنان المتخلف عن جيرانه يحتاج الى أكثر من خمس سنوات لبدء الانتاج. ما لم يتغيّر شيء في العمق في لبنان، من يهرب مبدئياً من الدب الروسي لا يفترض به ان يقع في شباك الشرك الإيراني. وسيظهر ذلك بوضوح من خلال مواقف الشركات العالمية ومدى حماستها للمشاركة في أي جولة تلزيم مقبلة.
في الانتظار، سيواصل آموس هوكشتين وساطته وسيواصل حزب الله تهديداته. هذا ملف ملائم لترويض بعض أطراف السلطة اللبنانية واخضاعها من وقت لآخر للامتحان، وملائم لإيران كي تطالب مواربة بما لا تريد قوله مباشرة.
مرة جديدة، والى حين تحييد لبنان عن صراعات المحاور، والى حين قيام سلطة لبنانية راشدة ونزيهة وشفافة، تكراراً: فليبقى الغاز في جوف البحر!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها