فجر يوم أمس الاثنين، أعلن وزير الدفاع التركي عن إطلاق عملية "مخلب القفل" ضد قواعد ومعسكرات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، بعدما باشرت القوات التركية قصف مواقع للتنظيم في مناطق ميتينا وزاب وأفاشين-باسيان. في المقابل، لم يحدث ما جرى تداوله قبل أيام عن هجوم تركي على مواقع قسد في شمال شرق سوريا، وكان قد أُشيع أن وسيطاً روسياً بين قسد والأسد قد أبلغ الأولى نية فصائل موالية لتركيا مهاجمة الدرباسية وعامودا وصولاً إلى القامشلي.
في الأصل كان التهديد الروسي بعملية تركية ضد قسد ركيكاً، فمثل هذه العملية لا يتوقف على وجود ضوء أخضر روسي فحسب، بل يتطلب موافقة أمريكية غير متوفرة حالياً، ولو كان التهديد جدياً لتضمن التلويح بتسليم تل رفعت الخارجة عن المظلة الأمريكية والتي طالما طالبت بها تركيا. التسريبات عن وجود تهديد روسي أتت في إطار الضغوط الممارسة على قسد لإنهاء سيطرتها على المربع الأمني في القامشلي العائد للأسد، ولرفع حصارها عنه وعن المربع الأمني في الحسكة، مع التنويه بإقدام قسد للمرة الأولى على حصار مطار القامشلي الذي تسيطر عليه قوات روسية.
كان هدف "الوساطة" الروسية هو انسحاب قسد، في حين لا إجراءات مقابلة من الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، والتي تحاصر حيي الأشرفية والشيخ مقصود الواقعين تحت سيطرة قسد في مدينة حلب. الضغوط على الحيين لا تبدو بهدف السيطرة عليهما، على الأقل بأي ثمن، إذ لا مؤشرات عن نية الفرقة الرابعة اقتحامهما، ولا مطالب بتسليمهما لسيطرتها، فضلاً عن أن نتيجة الاشتباك العسكري لو حدث محسومة لغير صالح قسد.
الضغوط في حلب والثمن المطلوب هو في شرق الفرات، حيث تحكم الإدارة الذاتية تحت المظلة الأمريكية. والثمن هناك له أبعاد مختلفة، منها الاقتصادي المتعلق بسيطرة قسد على آبار النفط وما يذهب منها إلى مناطق الأسد، ومنها السياسي والعسكري المتعلق بمتانة تحالف قسد مع واشنطن وآفاقه. أما السماح ببقاء قسد في حيي الأشرفية والشيخ مقصود، وسيطرتها على بعض القرى شمالاً في اتجاه عفرين، فمن المؤكد أنهما ليسا حباً بالأكراد، والغاية منهما استخدام قسد في الضغط على الفصائل التابعة لتركيا المسيطرة على منطقة عفرين.
لكن مناكفة تركيا باستخدام الأكراد لا تمنع وجود تنسيق بين الأسد وأنقرة في الشأن الكردي، وقد تم تداول أخبار عن لقاء جمع قبل أيام قليلة بين رئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان ورئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك. وبينما لم تؤكد أو تنفِ أنقرة عقد اللقاء المشار إليه في موسكو حاول إعلام الأسد التنصل منه بالإشارة إلى الموقف المعلن المطالب بانسحاب القوات التركية من سورية. في الواقع، لا بد أن يكون الموضوع الكردي في صدارة أية محادثات مخابراتية بين الطرفين، فعنده هناك إمكانية لاتفاقهما، في حين يصعب الاتفاق في ملفات أخرى مثل اللاجئين والتدخل العسكري التركي والتسوية النهائية في سوريا.
التعهد بإنهاء مشروع الإدارة الذاتية هو في رأس مطالب أنقرة المعلنة، إلا أن قرار الإنهاء ليس في جعبة الأسد، ثم إنه لا يقل عن أنقرة توقاً إلى إنهائها عندما يتمكن من ذلك. عليه، من المرجح أن مطالب فيدان من نظيره مملوك، وقد التقيا أكثر من مرة قبل الأخبار المسربة عن اجتماعهما الأخير، هي مطالب تتعدى الحدود السورية لتمس علاقة الأسد بمنظومة حزب العمال الكردستاني ككل، لا فقط العلاقة بفرعه السوري. ومعلوم أن هذه العلاقة المثلثة، بإضافة طهران إليها، ذات عمق يجوز وصفه بالاستراتيجي حتى مع خروج الفرع السوري للحزب إلى الظل الأمريكي مؤقتاً.
إذا كانت مصادفة حقاً فهي ليست اعتباطية بالتأكيد؛ أن تأتي الضغوط على قسد وعلى الحزب الأم في شمال العراق في التوقيت نفسه، وأن توافق قسد "مع انطلاق العملية التركية في شمال العراق" على شروط سبق أن رفضتها في الشمال السوري. اضطرار قسد للمهادنة، فضلاً عن أثر العملية العسكرية التركية، يعكس عدم تغير الموقف الأمريكي في سوريا على خلفية الاشتباك الأمريكي-الروسي بسبب الحرب في أوكرانيا، إذ من الجليّ أن واشنطن لم تنزلق إلى الرد على الاستفزازات التي ربما تستهدفها من خلال قسد، وهي لا تريد اشتباكاً آخر في سوريا، ولا تريد إعطاء قسد ميزة الحليف كما هو الحال مع أوكرانيا.
الضغط المزدوج الذي تعرضت وتتعرض له منظومة حزب العمال يعكس أيضاً النظر إليها كأداة، أو كصندوق بريد، ويشي بالاستعداد الدائم لاستخدامها كورقة ضمن المساومات الإقليمية. بالطبع، هذا ليس بجديد على المنظومة ذاتها التي لطالما سعت إلى استغلال التناقضات الإقليمية من أجل التكسب عليها، وهذه كما هو الحال دائماً مقامرة رابحة أحياناً، ومؤقتاً فقط. لذا سيكون أقصى طموح واقعي يتلخص في الحفاظ على الأمر الواقع الحالي، وأقصى طموح مؤجل ألا تطيح التسوية بين اللاعبين بكافة المكتسبات الكردية أثناء التحارب بينهم.
تنص المقولة السياسية الشهيرة على عدم وجود صداقات أو عداوات دائمة في السياسة. في الحالة الكردية يصحّ الشطر الأول الخاص بالصداقات، أما الأعداء الدائمون فهم موجودون، بل لا يندر أن يكون الاتفاق في الشأن الكردي هو نقطة الاتفاق الوحيدة بين المتخاصمين. هذا ما نراه الآن، على سبيل المثال لا الحصر، في الموسم الأخير للضغوط على حزب العمال وفرعه السوري، حيث تتقاطع المصالح ضد تمدده أو استقوائه بأي طرف بما في ذلك واشنطن، وتقاطع المصالح هذا هو الأبقى والأصدق من الظروف التي واتته من قبل.
وحتى إذا انفض موسم الضغوط الحالي بلا تغييرات دراماتيكية فهو بمثابة تذكير بثوابت السياسة على طرفي الحدود التركية-السورية. من ضمن الثوابت أن الفرقة الرابعة التي تولت قمع انتفاضة القامشلي عام 2004 تحاصر الآن حيي الأشرفية والشيخ مقصود، مع شهية لتكرار وحشيتها التي خبرها عموم السوريين منذ عام 2011.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها