مع بداية هذا الأسبوع انتحر رجل سوري، بإلقاء نفسه من فوق الجسر المسمى بجسر الرئيس حافظ الأسد في وسط دمشق، وتناقل السوريون صورة لقصاصة ورق كتب عليها القتيل يطلب المسامحة من ربه، ومن أهل الخير مساعدة أسرته على العيش، متوجهاً بالاعتذار لأبنائه لأنه لم يكن يستطيع تأمين الغذاء والتدفئة لهم. في الوقت نفسه، كانت مستشارة بشار "بثينة شعبان" تطل بلقاء تلفزيوني لتصرّح بأن "الاقتصاد السوري" أفضل بخمسين مرة مما كان عليه عام 2011، معتبرة ارتفاع سعر صرف الدولار إزاء الليرة وهمياً. تصريح المستشارة قوبل بسخرية واسعة، حتى في أوساط موالية، ما استدعى منها التوضيح بالقول أنها تحدثت عن الاقتصاد لا عن الوضع المعيشي!
ستأتي مظاهرات السويداء، تحت شعار "بدنا نعيش"، بمثابة رد عملي على التحسن المزعوم للاقتصاد، مع تدهور إضافي جديد في اليومين الماضيين في سعر صرف الليرة السورية وتبعاته لجهة ارتفاع أسعار السلع الأساسية. ينضم إلى هذا السياق توقيع ترامب على قانون سيزر الذي يتضمن رزمة جديدة من العقوبات على سلطة بشار والمتعاملين التجاريين معها، وربما سيكون له انعكاسات معنوية أكثر مما هي فعلية على سلطة لا تملك في الأساس اقتصاداً وعلاقات اقتصادية خارجية واسعة، في حين يبقى العامل الضاغط هو عدم قدرة الحليفين الروسي والإيراني على إنقاذ بشار اقتصادياً بينما يعاني اقتصادهما من التدهور.
بحسب تصريح بثينة شعبان عن تحسن الاقتصاد، لا مبرر لانتحار ذلك السوري سوى البطر! وإذا أخذنا دوافع تصريحها، الذي يبقى صادماً بوقاحته رغم التوضيح الصادر لاحقاً، فهو قد يكون رداً على قانون سيزر، إلا أنه ينطوي على احتقار هائل لمعاناة السوريين الذين يعيشون تحت سيطرة الأسد، ومن ضمنهم الشريحة الفقيرة من الموالين. من هذه الناحية، لا يحمل التصريح جديداً، فاحتقار عموم السوريين أمر درجت عليه سلطة الأسد، وهو جزء من منظومة القهر المعنوي التي لا تتوقف عن ممارستها، ووظيفة إنكار الواقع "عبر الكذب الوقح" تصب في الاحتقار العلني لعقولهم وكراماتهم مع القدرة على إبقائهم صامتين بالبطش.
تباهي سلطة الأسد بأنها لا تخضع للضغوط الاقتصادية، والمباهاة هي تحديداً في عدم اكتراثها بمعاناة السوريين. هنا يجدر بنا تذكر استخدامها السلاح الاقتصادي علانية، بحصارها المناطق الخارجة عن سلطتها تحت شعار: الجوع أو الركوع. لكن، خارج حربها على الثورة، كانت السلطة على الدوام تستخدم السلاح الاقتصادي، فهي المتحكم الوحيد بمفاتيح الاقتصاد والثروة وتوزيعها، والمحصلة كانت دائماً إفقار غالبية السوريين كوسيلة قمع مستدامة مع شراء القدر اللازم من الولاءات عبر منظومة الفساد والنهب ذاتها.
من قتل ويقتل سوريين لأنهم ثاروا عليه لن يكون أرأف بسوريين آخرين تحت سلطته التي لا ترحم إطلاقاً، فنحن لسنا أمام نظام أبارتيد على النحو الذي سوّق له الأسد وشبيحته مع مستهل الثورة. إن نظام التمييز يضمن على الأقل كرامة جنس بشري على حساب جنس بشري آخر، ولا يكون على شكل عصابة تكنّ أو تظهر الاحتقار للجميع. هذا الفهم يبدو ملحاً اليوم لأن سوريين كثراً على الجانبين انزلقوا إلى فخ اعتباره نظام تمييز، إما على أسس سياسية أو طائفية. ليس من المصادفة إطلاقاً أن تقتل ماكينة الأسد في الوقت نفسه سوريين تحت القصف وسوريين آخرين تحت الجوع، هذا هو جوهر عملها وضمانة بقائها.
جوهر الماكينة الأسدية يُفترض أن يشير من جهة أخرى إلى حال نقيضها، والنقيض المفتقد "لأسباب ومبررات وجيهة" هو الخطاب المضاد لها، الخطاب الذي يرى نفسه معنياً بالشريحة المتضررة الأوسع من السوريين. هذا الخطاب بطبيعته يعلو "أو يتعالى" على كثير من الجراح، وأولها عدم وجود وعي مشترك لدى هذه الشريحة، وعدم وجود اتفاق ضمنها على أسباب الكارثة السورية، وتالياً على سبيل الخلاص منها.
لا توجد اليوم قرابة ظاهرة بين هتاف السوريين عام 2011 "الشعب يريد إسقاط النظام" وهتافات في مظاهرة السويداء من قبيل "طاء طاء طائية.. طز بالدولة السورية"، أو "هيه هيه يا بلادي.. حكومتنا قوادة". ربما كان بين يهتف في السويداء أشخاص وقفوا على الضد من الثورة، ولم تؤثر بهم مشاهد الإبادة والتدمير والتهجير الذين تعرض لهم ملايين السوريين، بمعنى أن هذا البعض لم يتحرك إلا عندما مُسّت مصالحه إلى حد لا يُطاق. هذا مؤشر يصعب التعاطي معه بعقل بارد، ويصعب بشدة فهمه من منظور الأخلاق، لكن لغة المصالح "مع الأسف" لها الكلمة الفصل لا في التجربة السورية فحسب وإنما في العديد من التجارب المماثلة، مع التنويه الدائم باستثنائية القمع الأسدي وتعميمه ثقافة الخوف والخلاص الفردي.
واحدة من المهام العسيرة والشائكة اليوم هي مهمة بناء خطاب يتجاوز الانقسام الذي يبدو مستقراً منذ عام 2011، وهو باقٍ على الصعيد النظري أكثر مما هو واقعي، لأن التصدعات ضربت وتضرب جانبي الانقسام. الخطاب المأمول يتنطع بطبيعته لمهمة شاقة، هي تجريد سلطة الأسد من ولايتها على قسم من السوريين، بأن يُطرح كممثل لكافة المتضررين منها، سواء ارتضوا ذلك أو لم يرتضوا. الحالة السورية تتولى تفسير الجملة الأخيرة، لأن انتظار انتظام المتضررين من تلقاء أنفسهم حول خطاب مشترك لن يأتي بالنتيجة، وحتى وقوفهم مع هذا الخطاب في حال وجوده لن يكون قابلاً للقياس أو مضموناً، رغم الحاجة له.
تقدّم الظروف الحالية كافة موجبات اجتماع المتضررين، بقدر ما تقدّم كافة عوامل اليأس والشكوك والمخاوف، فالانهيار الاقتصادي لن يتوقف عند هذا الحد، ووحشية سلطة الأسد ستزداد معه منعاً لانعكاساته السياسية. المتضررون الجدد رأوا للتو ما حل بالذين ثاروا على الأسد، ورأوا أيضاً عدم اكتراث العالم إزاء المقتلة السورية، وهذا لن يشجعهم على فعل يتجاوز التذمر أو الاحتجاج الناعم. أما القدامى فهم واصلون أصلاً إلى القطع النهائي مع سلطة الأسد، ولم تبقَ سوى شعرة تربط قسماً صغيراً منهم بهياكل المعارضة التي تزعم تمثيلهم. هي لحظة مناسبة لتقدّمِ خطاب يدافع عن الضحايا، يدافع عن السوريين الواقعين تحت القصف والقتل وعن أولئك الذين يُقتلون ببطء. يمكن مثلاً الإصرار على محاسبة المجرمين وعلى إطلاق سراح المعتقلين، وفي الوقت نفسه الدفاع عن حق الجميع في العيش، والمطالبة بعقوبات دولية لا تزيدهم بؤساً، أو على الأقل قيام المؤسسات الدولية بواجباتها الإنسانية إزاءهم. لقد هتف المتظاهرون في بداية الثورة "سوريا لنا وما هي لبيت الأسد"، واليوم تتجدد أهمية ذلك الهتاف، لا على أرضية النزاع على سوريا وإنما النزاع على السوريين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها