تبدو الاتفاقية العسكرية التي وقّعها بشار الأسد مع إيران، في دمشق، موجهةً بصورة رئيسية إلى روسيا، وليس لأحدٍ آخر. ففيما تسعى الأخيرة لإعادة تأهيل نظامه، وفق شروط محددة يتم التفاوض عليها مع الغرب، من بينها، الحد من النفوذ الإيراني في الداخل السوري، يأخذ الأسد مسافة من روسيا، ويقترب أكثر من إيران.
في أوائل العام 1986، أوقفت إيران شحن نفطها إلى سوريا، تحت عنوان الديون المستحقة لطهران على دمشق، فيما كان السبب الحقيقي، هو اختلال موازين القوى بين وكلاء الطرفين، في لبنان، حركة أمل المقرّبة من سوريا، وحزب الله الممثّل للنفوذ الإيراني، فما كان من حافظ الأسد حينها، إلا أن قَبِل مبادرة سعودية لتطبيع العلاقات مع الأردن، الحليف المقرّب من العراق، في رسالة لإيران، سرعان ما تلقتها الأخيرة، فسارعت لإعادة شحن نفطها إلى سوريا، وتطويق الخلاف مع الأسد في أسرع وقتٍ ممكنٍ.
تلك كانت إحدى الاستراتيجيات التي أرساها الأسد الأب في سياسات نظامه، والتي تقوم على ترك قنوات مفتوحة مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، حتى تلك التي في حالة عداوة أو خلاف معه، والتلويح بالانتقال من ضفة إلى أخرى، لضمان استقلالية نسبية له، في علاقاته مع حلفائه الذين يمتلكون وزناً أكبر في العلاقة التحالفية التي تربطهم به. وقد استخدم الأسد الأب تلك الاستراتيجية أكثر من مرة، في العلاقة مع إيران تحديداً. لكنه، لم يضطر، في أي مرة، للذهاب فيها حتى النهاية، لأن إيران كانت تتلقف الرسالة مباشرةً، وتطوق الخلاف معه، بما يضمن بقاء حلفها الاستراتيجي، صامداً، مع نظام الأسد بدمشق.
اليوم، يبدو أن الأسد الابن، يعتمد الاستراتيجية نفسها، رغم ضعفه الشديد، في الداخل السوري، وهو ضعف لم يعاني منه الأسد الأب، في أي مرحلة من مراحل حكمه. لكن، لا يبدو أن هذا الضعف أفقد نظام الأسد، القدرة على المناورة بين الحلفاء، وحيالهم، حتى الآن.
ويستخدم بشار الآن، استراتيجية والده، في التلويح بالخيار الآخر، في وجه روسيا، التي تتعرض لضغوط غربية للحد من النفوذ الإيراني في سوريا. فروسيا، التي تريد أن تُحصّل توكيلاً غربياً بإدارة سوريا، بموجب انخراطٍ اقتصادي في إعادة الإعمار، تحاول إعادة تأهيل نظام الأسد، بصورة تسمح بقبوله دولياً.
إعادة التأهيل تلك، تفرض على بشار الأسد استحقاقات، سبق أن ذهب حتى النهاية في الحرب على شعبه، لتجنبها. واليوم، يرى الأسد ورموز نظامه، أنهم يستحقون الظفر بسوريا، وأن يكون الوكيل الداخلي الوحيد فيها، مقابل شراكة مع الروس والإيرانيين. ورغم كل الضعف الذي ألم به، ما يزال الأسد ينظر لنفسه على أنه شريك ندّي، للروس والإيرانيين، في الداخل السوري. وهو يحاول، من حين لآخر، كلما أُتيحت له الفرصة، أن يتحرك بما يثبت تلك النديّة. فيما تتعامل روسيا مع سوريا، ونظام الأسد فيها، بوصفها قوة داخلية تابعة لأمرتها، في حالة مشابهة لتلك التي تتعامل بها مع دولة كجمهورية أوسيتيا الجنوبية.
وتظهر ملفات عديدة، مؤخراً، يبدو فيها أن روسيا تتحرك منفردة، بخلاف رغبة نظام الأسد. أبرزها على الإطلاق، ملف إعادة اللاجئين، الذين كان طردهم، استراتيجية لنظام الأسد، خلال السنوات السابقة، هدفها الرئيسي، تحقيق شيء من التغيير الديمغرافي، الذي عبّر عنه الأسد بكلمة "انسجام" بين مكونات الطيف السوري. فأولئك العائدون، الذين تلح روسيا على نظام الأسد، كي يقدم ضمانات لهم، هم الجزء الأكبر من الحاضنة الشعبية المناوئة له. وأولئك العائدون، لم يخضعوا لأدوات الترهيب وإعادة الترويض التي مارسها نظام الأسد على الباقين في الداخل، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرته سابقاً، من خلال التجويع والحصار، ومن خلال استهداف المؤسسات المدنية في مناطقهم، والدفع باتجاه التناحر بين فصائلهم من خلال اختراقهم مخابراتياً، بحيث أصبح سكان تلك المناطق، مستعدون لقبول نظام الأسد، مجدداً، والخضوع له.
العائدون من الخارج، لم يعيشوا عوالم الرعب التي عاشها سكان الداخل. ولم يتم ترويضهم بالشكل المناسب. لذلك، فإن عودتهم، بأعداد كبيرة، كما تريد روسيا، قد تهدد حاجز الخوف الذي عمل نظام الأسد على إرسائه مجدداً، بعد انهياره المفاجئ عام 2011.
واليوم، في مفصل إدلب تحديداً، تتبدى ملامح خلاف جديد. فروسيا تحاول الحفاظ على شراكتها مع تركيا، وتمارس الضغوط عليها، لكنها، في الوقت نفسه، لا تذهب باتجاه استفزازها، بما يهدد صيغة التعاون التي أرساها الطرفان خلال السنتين السابقتين. فيما يعاني نظام الأسد من حساسية عالية تجاه الأتراك، فهم الممول والداعم الرئيس لقوى المعارضة التي أنهكته لسنوات. وينظر نظام الأسد اليوم، إلى إدلب، بوصفها، منعطفاً حاسماً باتجاه إضعاف المكاسب التركية في الساحة السورية.
وفيما يسعى الروس للوصول إلى حل وسط لا يُخرج الأتراك من تفاهمات "آستانة"، يحاول نظام الأسد تكثيف الضغوط على حليفه الروسي، كي يغطي معركته المرتقبة في إدلب، والتي قد تتطلب، في مرحلة ما، استخدام السلاح الكيماوي، الأمر الذي يحتاج غطاءً روسياً، ليس على المستوى العسكري – الجوي فقط، بل على المستوى السياسي – الدولي أيضاً.
ولإفهام الروس، أن الأسد ما يزال يمتلك هامشاً من حرية القرار الداخلي، يأخذ مسافة منهم، ويقترب أكثر من الإيرانيين، بصورة تحرج الروس، وتظهرهم بمظهر العاجزين أمام مفاوضيهم في الغرب.
بطبيعة الحال، يختلف الهامش الذي كان الأسد الأب يتحرك في إطاره. إذ كانت استراتيجية التلويح بالانتقال إلى الضفة الأخرى، تتم والداخل السوري محصن لصالح نظام الأسد. لذلك، لم تكن إيران تسمح يوماً لهذا التلويح أن يذهب إلى مداه الأخير. ولم يكن الأسد الأب مضطراً لأكثر من التلويح. أما في حالة الأسد الابن، اليوم، فإن الداخل السوري، مخترق، من الإيرانيين والروس. ومساعي الطرفين لتعزيز نفوذهما داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، في "الدولة السورية"، تتقدم، على حساب الأسد الابن، نفسه. الأمر الذي يطرح تساؤلات حول كيفية تعامل روسيا مع تلويح الأسد هذا؟، هل ستنتهج النهج الإيراني السابق نفسه، وتسارع لتلقي الرسالة وتطويق خلافها مع الأسد؟، أم ستنتهج نهجاً آخر مختلفاً؟
يتوقف الجواب على مدى التغلغل الروسي داخل مفاصل صنع القرار في دمشق، وحجم موارد القوة التي تمتلكها روسيا داخل مؤسسات "الدولة السورية". فإذا كان ذلك التغلغل وصل للعتبة المطلوبة للنيل من الأسد نفسه، فهذا يعني أن الأخير قد يكون في خطر. أما إذا لم يكن قد وصل، فهذا يعني أن الروس سيطوقون خلافاتهم مع الأسد، مؤقتاً، بانتظار الوصول إلى العتبة المطلوبة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها