لم يكن سقوطاً أخلاقياً للرئيس السوداني عمر حسن البشير، بل كان إرتقاء سياسياً.
الزعيم السوداني الذين ينتمي الى جيل مخجل من الزعماء العرب، يضم البعثين العراقي والسوري، والعقيدين معمر القذافي وعلي عبد الله صالح ويفسح المجال للكثير من الملوك والامراء العرب.. زار دمشق في مهمة أكبر من حجمه: التعبير المتواضع والهامشي عن التضامن والتعاون بين الطغاة العرب، والتمهيد لإعادة إنتاج النظام العربي بصيغة جديدة ليس فيها أثر لأي ثورة أو إنتفاضة أو تمرد شعبي.
القول أنه مرسلٌ من قبل نادي الزعماء العرب الذين وقفوا جنباً الى جنب لدرء خطر الربيع العربي قبل سبع سنوات، لاستكشاف فرص عودتهم تباعاً الى دمشق، يزيد الضابط السوداني قيمة، ويضفي على دوره أهمية لن ينالها. يمكن لزيارة علنية يقوم بها وفد عسكري سعودي أو إماراتي أو مصري الى العاصمة السورية أن تحدث فارقاً سياسياً أكبر بكثير من الزيارة الرئاسية السودانية الخاطفة.
منذ أن أُخمدت الثورة السورية بقوة روسية وإيرانية هائلة، بات السؤال عمن سيكون الزعيم العربي الاول الذي سيزور دمشق، أو عن العاصمة العربية الاولى التي ستستضيف الرئيس بشار الاسد. (كانت بيروت ولا تزال مرشحة لمثل هذا الدور الصعب). لكن الاغلب ان دمشق كانت تتوقع وتتمنى ضيفاً عربياً أهم من الرئيس السوداني، يقوم بزيارة دولة رسمية تمتد لإيام وتشمل جولة سياحية في معظم الانحاء السورية الخاضعة لسيطرة النظام، وأشرطة مصورة وسط ركام حي الوعر في حمص أو داخل أنفاق جوبر او على أطراف قلعة حلب..
كسر الرئيس السوداني بلا شك حاجزاً نفسياً وقضائياً، أكثر من كونه إنتهك قراراً للجامعة العربية، فرضته الصدفة ولم يحترمه أحد: نظام يقتل شعبه بهذا الشكل المريع، يحتاج الى تربية وتعليم، لا الى تأنيب وتأديب. فما هي في الاصل وظيفة أي نظام عربي؟ القتل بلا صخب وبلا مجازر.. وبلا إستدراج عقوبات او ملاحقات دولية إضافية محرجة، تتطلب التحايل على القانون الدولي، على نحو ما جرى مع البشير نفسه الذي كان مطلوباً للعدالة الدولية، قبل ان يصبح واحداً من الأسلحة الروسية في وجه الغرب.
الرئيس السوداني في زيارته الدمشقية الخاطفة، والذي حملته طائرة عسكرية روسية، بدا كأنه موفد رسمي روسي يستكمل الحملة المكثفة التي يخوضها الكرملين من أجل إعادة تأهيل النظام السوري بشكل تدريجي هادىء وثابت، وتبديد جميع الدعاوى والقضايا القانونية التي تلاحق رموزه، مستفيداً من تجربة البشير بالذات، الذي فتحت له الاحضان العربية والدولية، وإستعاد شرعيته ومصداقيته ووظيفته في مختلف الحروب والازمات العربية.
اللقاء الدمشقي كان تحدياً روسياً جديداً للقوانين والأعراف الدولية، يشجع بقية الزعماء العرب على الاستخفاف بقيم العدالة ومحاكمها، وعلى الانضمام الى النادي الذي يطمح الكرملين الى تأسيسه من غلاة المتمردين العرب على الغرب او المختلفين معه. وأبواب العضوية مفتوحة لمعظم الزعماء العرب، الذين إهتزت تحالفاتهم التقليدية مع واشنطن او بقية العواصم الاوروبية الغربية، وباتوا يشعرون بالقلق حتى بمجرد التفكير في زيارة أي من هذه العواصم.
والحال أنه كلما إضطرب الحلف القديم بين هؤلاء الزعماء العرب وبين الاميركيين والاوروبيين سستكون الطائرات العسكرية الروسية جاهزة لنقل أي زعيم عربي يرغب في زيارة دمشق، أو لمرافقة طائرته لدى دخولها الاجواء السورية.. مع ان العامل الايراني الذي لم يؤخذ في الاعتبار لدى جلب الرئيس السوداني الى العاصمة السورية، يمكن ان يكون مؤثراً في تحديد مواعيد وتفاصيل الزيارات الرسمية العربية المقبلة. فخروج إيران من سوريا كان شرطاً لمثل هذه الزيارات وربما لا يزال.
الرحلة الرسمية التالية الى دمشق تحسم هذا الشرط.. وترد أيضاً على السؤال اللبناني الملحّ عما إذا كانت بيروت هي ملتقى التطبيع العربي مع النظام السوري، وثمنه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها