قبل أيام قليلة بدا بوتين على وشك قطف ثمار الملف السوري كاملة، مؤتمر سوتشي الذي يجهز له هو أشبه بمهرجان لتكريس انتصاره، تحت يافطة الإبقاء على بشار ولو من باب العنجهية واستعراض القوة على كل من يرفض بقاءه. بل إن وزير خارجيته وصف المعارضة التي تطالب برحيل بشار بأنها تحتاج إلى تربية، ولم يكن إعلام الأخير قد باشر هجومه على المبعوث الدولي ديمستورا، فالمبعوث الدولي بدوره كان بدأ يسلّم بالهيمنة الروسية المطلقة طالما لم تأته إشارة معاكسة من واشنطن. وتمهيداً لسوتشي كان الطيران الروسي يغطي الهجوم على ريفي إدلب وحلب الجنوبي لإضعاف موقف أردوغان ومن يتبعه من المعارضة، فضلاً عن الهجوم على الغوطة الشرقية، وكانت الرسالة هي استعادة كافة المناطق سلماً أو حرباً.
أيام العسل هذه لم تدم طويلاً، على الأرجح لا علاقة لهجومي حميميم بالتنغيص عليها، فإدارة ترامب أعلنت عن تشكيل جيش قوامه 30 ألف مقاتل بقيادة وحدات الحماية الكردية، تقوم مهمة الجيش على حراسة حدود المناطق الشمالية الشرقية والشرقية التي تسيطر عليها تلك الوحدات، مع إعلان الإدارة عن وجود دبلوماسي مستدام لها في تلك المناطق. بعبارة أخرى؛ إذا سولت لبوتين نفسه الاستفراد بسوريا فعليه الاكتفاء منها بذلك الجزء الخارج عن النفوذ الأمريكي، ويستطيع هناك مقايضة الأتراك وإرضاء طهران كما يشاء، ويستطيع الإبقاء على بشار طالما رغب في ذلك لكن ليس على سوريا بأكملها. وما تنوي الإدارة الأمريكية فعله في الشمال والشرق ستكون صعوبته أقل في الجنوب، إذا قررت الإدارة أيضاً إنشاء جيش مماثل في حوران، ما دامت القوات والمخابرات الأمريكيتين تمتلكان في الجوار حرية لوجستية أكبر.
وإذا تولى أردوغان الرد على الخطوة الأمريكية الأخيرة، بضجيج ووعيد يذكّران بخطابه إزاء استفتاء إقليم كردستان، فهذا لا يمنع من القول أن الدبوس الأمريكي موجه أولاً إلى ظهر بوتين، بغية "لفت نظره" إلى أن حرية حركته مرهونة بتوافقها مع المشيئة الأمريكية العامة. أقله لن يكون في وسع بوتين، وهو على أبواب الانتخابات الرئاسية، الزعم أنه سوبرمان العسكرة والسياسة، وأنه حقق هدفه بإبقاء بشار على سوريا موحدة بكامل أراضيها. صحيح أن ذلك لن يؤثر في نتيجة انتخابات رئاسية محسومة سلفاً، إلا أنه يطعن في صورة بوتين الماضي من انتصار إلى انتصار، بما في ذلك تدخله في الانتخابات الأميركية.
بالطبع لا أهمية تذكر لإعلان وزارة خارجية بشار عزمها التصدي للوجود الأميركي، فالرد الدبلوماسي تولاه لافروف وحمل تهديدين، أولهما لوحدات الحماية الكردية وينص ضمناً على إطلاق يد أنقرة في منطقة عفرين المعزولة أصلاً عن باقي مناطق سيطرة الوحدات، وثانيهما يتلخص في كون منطقة الحماية الأميركية معزولة جغرافياً، بحكم وقوعها ضمن محيط معادٍ. التهديد الأول يأخذ جديته من الخسارة الأليمة التي قد تتحملها وحدات الحماية لمكانة عفرين ضمن مشروعها، وربما أيضاً من استعداد أمريكي للتضحية بجيب معزول عن منطقة النفوذ الأهم، مع التحفز التركي للإتيان بنصر يغطي هزيمة السياسة التركية في سوريا ككل. أما التهديد الثاني فهو يقرر الواقع الفعلي لمنطقة ليس لها أي تواصل جغرافي مريح، بما في ذلك جهة إقليم كردستان التي لم تعد مستقلة على النحو الذي كانت عليه قبل الاستفتاء.
في الواقع لا أفق لفصل منطقة الشمال الشرقي والشرق عن باقي سوريا، ما لم يكن هناك نية لتغيير خريطة المنطقة، وتكلفة إبقاء هذه المنطقة معزولة ومحاصرة بالأعداء هي باهظة بالمعيار الاقتصادي. لكن، من الجهة المقابلة، هذه المنطقة المهمشة طوال حكم البعث والأسدين فيها الثروات التي يحتاجها تنظيم الأسد وحلفاؤه في حال بقائه، من النفط والطاقة المائية وصولاً إلى خزان محاصيل الحبوب. وإذا كان هناك من روّج لـ"سوريا المفيدة" وفق المنظور الإيراني فإن "سوريا المفيدة" تلك ستكون عاجزة اقتصادياً من دون هذه المناطق، وسيكون الخيار الفعلي أمام موسكو وطهران تحمل كلفة إعادة الإعمار مع صرف النظر عن عائدات مستعجلة تأتي من الثروات الطبيعية، وبالطبع بدون انتظار مساهمة غربية أو خليجية قد يذهب بعضها بحسب ما يُشاع إلى إعادة إعمار منطقة النفوذ الأميركي.
عدم وجود أفق لفصل هذه المناطق عن باقي سوريا لا يقلل من أهمية بقائها حالياً خارج سيطرة بشار وحلفائه، فبوتين كما يعلم القاصي والداني يستعجل تكريس انتصاره بموافقة دولية، إدراكاً منه لهشاشة الانتصار في حال وجود ممانعة غربية تُديم تورطه في تفاصيل الشأن السوري. وهو يدرك أن بقاء السيطرة الأميركية على أجزاء من سوريا قد يتحول بمثابة خنجر مسموم فيظهره، متى تغيرت الاستراتيجية الأميركية أو القائمون عليها. الإنذار الأميركي الحالي قد لا يتعدى ما هو مطلوب علانية لجهة فك ارتباطه عن إيران في سوريا، أي أن المستهدف الأساسي هو تحالفه مع طهران، لكن الانصياع لهذا الطلب قد يكون أصعب عليه من لعبة عض أصابع طويلة الأمدمستقوياً بقدرته على الصمود في مواجهة العقوبات المتعلقة بالملف الأوكراني.
الرد على قرار واشنطن قد يأتي سريعاً بتبادل الانتصارات خارج الملعب الأمريكي لحفظ ماء الوجه، فيحقق بوتين انتصاراً في إدلب، بينما يحقق أردوغان انتصاراً ما في عفرين. في أحسن الأحوال قد تتوقف المجريات الميدانية عند ستاتيكو مناطق النفوذ، أما العملية السياسية فمهددة بالتوقف أصلاً فوق حالة العطالة التي رافقتها منذ البداية. في كل الأحوال لا يلوح طريق ثالث بين اللاحل على طريقة الهيمنة والاستفراد الروسيين واللاحل على طريقة العرقلة الأميركية، وما تثبته الخطوة الأميركية من غير قصد هو أن بقاء بشار يعني فيما يعنيه تقسيم سوريا، مع التنويه بأن القسمة المطروحة حالياً قد لا تكون نهاية المطاف.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها