ليس من مشهد فيه من الذلّ ، أكثر من مشهد فتوة متعجرف ، متسلط بذيء ، وهو يتلقى صفعة على وجهه ، أو يمسح بصقة عنه . لكن الإرتباك الأولي ، الذي يصاب به الفتوة ، لن يدفعه إلى إعادة النظر في مسار سلوكه ، الذي انتهى به إلى تلقي الصفعة والبصق في وجهه أمام العالم أجمع ، بل سيزداد شتماً وسباباً وتبريراً أخرق لما هو عليه من خلق.
هذه هي حال الفتوة الروسي مع اللجنة الدولية للألعاب الأولمبية ، التي أعلنت الثلاثاء في الخامس من الجاري عن قرارها بمنع الفريق الروسي من المشاركة في الألعاب الشتوية القادمة في كوريا الجنوبية . وسيكون بوسع الرياضيين الروس المشاركة في الألعاب المذكورة ، لكن من دون العلم الروسي والنشيد الوطني ، ومن دون كلمة "روسيا" على ثيابهم او على الأدوات الأخرى . ولن يشارك من الرياضيين الروس سوى أولئك الذين ليس لهم سوابق في المنشطات، ولم ترد أسماؤهم في "لائحة المشتبه بهم " ، التي وضعتها الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات نتيجة تحقيقاتها على مدى السنوات الأخيرة .
وبينت التحقيقات المذكورة مشاركة الدولة الروسية وأجهزة مخابراتها في برنامج المنشطات ، الذي ساعد الرياضيين الروس على الفوز في ألعاب سوتشي العام 2014 . وتم ، نتيجة هذه التحقيقات، سحب الميداليات من 11 فائزاً من الرياضين الروس في ألعاب سوتشي السابقة ، وانتقلت روسيا من المرتبة الأولى ، بعدد الميداليات ، إلى المرتبة الثالثة ، حسب نوفوستي.
وقد أفضت التحقيقات إلى اتخاذ اللجنة الأولمبية قراراً بفرض عقوبات على الفريق الرياضي الروسي بسبب البرنامج الرسمي للمنشطات ، الذي يعمل منذ سنوات . وبذلك تكون روسيا قد أصبحت الدولة الأولى في تاريخ الرياضة العالمية ، التي تُلغى مشاركتها في الألعاب الأولمبية بسبب المنشطات. وتطال العقوبات اللجنة الأولمبية الروسية ، التي تم وقف عضويتها في اللجنة الدولية ، كما شملت أيضاً جميع المسؤولين الروس في مجال التربية البدنية والرياضة ، إذ حُظر على نائب رئيس الوزراء الروسي فيتالي موتكو ، والنائب السابق لوزير الرياضة يوري ناغورنيخ زيارة الألعاب الأولمبية ، بصفة رسمية ، مدى الحياة . كما تم وقف عضوية رئيس اللجنة الأولمبية الروسية الكسندر جوكوف في اللجنة الدولية ، كما طُرد ديمتري تشيرنيشنكو من لجنة تنسيق ألعاب "بكين ـــــ 22" ، وهو كان رئيس اللجنة التنظيمية للألعاب الشتوية في سوتشي العام 2014 .
إضافة إلى كل ذلك ، فرضت اللجنة الأولمبية على روسيا دفع مبلغ 15 مليون دولار لتغطية نفقات التحقيقات المذكورة ، وسوف تذهب هذه النقود إلى المنظمة المستقلة لاختبارات المنشطات .
تشير ردة فعل المسؤولين الروس إلى أنهم قد فوجئوا بالأمر ، ولم يتوقعوا أن تبلغ الأمور ما بلغته من "إذلال" لروسيا"،حسب موقع " Info Resist" ، و"بصقة على الوجه" ، على قول صحيفة الكرملين"vzgliad" . وقد أثارت هذه العقوبات نقاشاً واسعاً بين المسؤولين ، وفي كافة المواقع الإعلامية ، تمحور حول نقطة وحيدة: هل يشارك الرياضيون الروس في الألعاب القادمة تحت علم محايد، أم أن عليهم الإمتناع عن ذلك . فقد سارع الرئيس بوتين إلى رفض مشاركة الرياضيين الروس تحت علم محايد ، لكنه سرعان ما بدل رأيه ، ورأى ضرورة المشاركة وعدم حرمان الرياضيين من فرصتهم . ويجمع معظم السياسيين والمواقع الإعلامية على ضرورة ترك الحرية لكل رياضي بمفرده أن يقرر مايراه مناسباً ، وأن لا تتكرر تجربة العام 1984 ، حيث فرض على الرياضيين السوفيات آنذاك مقاطعة ألعاب لوس أنجلس الأولمبية ، بسب مقاطعة الدولة السوفياتية لتلك الألعاب . لكن السياسي الشعبوي الشهير جيرينوفسكي ، ما زال يصر على اعتبار مشاركة الرياضيين الروس خيانة ، لا تقل عن الخيانة في الحرب الماضية مع الألمان.
ولعل أكثر ردود الفعل دلالة على سلوك الفتوة في الرد على الصفعة ، كان ما كتبته صحيفة الكرملين "vzgliad" في هذه المناسبة . فقد رأت هذه الصحيفة أن عقوبات اللجنة الأولمبية بحق روسيا هي ظلامة ، والظلامات على مستويات مختلفة . فالهجوم ، الذي قام به هتلر على الإتحاد السوفياتي هو أيضاً ظلامة ، لكن من مستوى أعلى بكثير. وما قامت به اللجنة الأولمبية يأتي في سياق الظلامات ، وبالتالي تصبح مشاعر "اليأس والقنوط والعار" ، التي تعتري الروس ليست ذات معنى ، إذا ما توضح جوهرها.
وترى الصحيفة ، أن انزعاج الروس وغضبهم وتصريحاتهم المطولة حول تصرف اللجنة الأولمبية حيالهم ، تظهر لأولئك الذين "أرادوا إذلالنا" ، أنهم قد تمكنوا من بلوغ أهدافهم ، التي رسموها . وما جرى يبين ، أن من تعاملت روسيا معهم وأمنت جانبهم ، لم يكونوا أهلاً لهذه الثقة ، بل تبين أنهم نصابون ومحتالون . وليس من سبب لكل هذا الحزن بسبب "بصقة في الوجه" وإهانة تم توجيهها لبلاد بأكملها ، وليس من سبب لكل هذه المرارة والمراثي ، فالمسألة كلها عملية رمزية ، مهمة بالطبع ، لكنها لا تمس روسيا ومواطنيها ، سوى بصورة غير مباشرة . فلنفترض أن الرياضيين الروس لم يذهبوا إلى كوريا الجنوبية ، أو أنهم ، على العكس، ذهبوا وشاركوا تحت علم محايد ، فما الذي سيتغير في تلك "المجالات الحيوية فعلاً بالنسبة لمستقبلناً. لن يتغير شيئ بتاتاً ". على قول الصحيفة .
الألعاب الأولمبية ليست مسابقة ذهنية ، ولا هي سباق تكنولوجي ، بل هي رياضة لا أكثر ، وسلوك اللجنة الأولمبية "السافل" حيال روسيا يثير خيبة أمل ، بالطبع ، لكن أن "نعتبر أنفسنا متضررين من تلك السفالة ، فهذا يعني أننا نتقبل قواعد اللعبة ، التي يفرضها علينا أولئك ، الذين يريدون أن يبدو الأمر وكأنه مسار عارٍ لروسيا" .
وتقول الصحيفة ، بأن مهمات عظمى تقف أمام روسيا ، التي حققت قسماً منها . فقد تمكنت في سوريا من كسر آلية زعامة الولايات المتحدة وحلفائها ، الذين أخذوا على عاتقهم "تدمير بلدان بأكملها" . وليس لدى روسيا الوقت لهذه البكائية بسبب إهانات وألعاب ما ، بل على الروس أن يفتخروا بأن الآخرين تصرفوا حيالهم بهذه القسوة والظلم الواضح ، لأن هذا يعني أمراً واحداً لا غير : " فقد تخلوا عن كل التهذيب في ظل الرغبة الجامحة بإلحاق الأذى بروسيا ، لان الأمر يتعلق ببدء العمليات الحربية على جميع الجبهات ، ولجأوا هم إلى الهجوم على من يعتبرونه عدوهم الرئيسي" . ولذا على روسيا أن تركز جهودها هنا بالذات ، حسب الصحيفة ، لأن ليس هناك ما "يهدد مصالحنا الحيوية في ملاعب كرة القدم ، وعلى خطوط التزلج أو ملاعب الهوكي " .
ما تورده صحيفة الكرمين في تبرير "المذلة" و"البصقة في الوجه" ، التي تلقتها روسيا من اللجنة الأولمبية الدولية ، يقدم صورة بسيطة عن منطق الفتوة ، حين يتعرض للإهانة أمام أعين الجميع ، لكنها ليست الصورة الكاملة . فما تعرضه شاشات التلفزة الروسية من ردح في هذا المجال ، متواصل على مدار الساعة ، يبدو حياله منطق صحيفة الكرملين ، منطقاً "عقلانياً رصيناً" .
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها