عندما جاء السؤال من صديق عزيز، بدا كأنه إمتحان للذاكرة واستدعاء لموقف منسي ومكبوت: ما رأيك بظهور الكاتب أمين المعلوف في مقابلة على التلفزيون الاسرائيلي؟
لم يكن الظهور قد شاع وتحول إلى مادة دسمة لسجال لبناني قديم جديد، يحتمل كثيراً من العصبيات السابقة ويحوي كثيراً من الحساسيات الدائمة والادعاءات الفارغة. لكنه كان يعبر عن جهل مفرط بالكاتب المرموق، وبالظرف الذي استند إليه التلفزيون الإسرائيلي لاجراء مثل هذه المقابلة. وهو ما لا شأن للبنان به لا من قريب ولا من بعيد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استدراجه إلى الداخل اللبناني.
وهي حالة مطمئنة، لأن من أطل على الشاشة الإسرائيلية لم يكن لبنانياً، ولم يكن المضيف الإسرائيلي يحاول من خلاله اأن يحاور لبنان أو أن يخاطب جمهوره، وأن يمهد ربما لتواصل أو تفاوض أو ما شابه، مع الجمهورية اللبنانية بواسطة أحد مثقفيها. ولا حاجة إلى كثير من الذكاء لكي توضع المقابلة في سياق الجدل الإسرائيلي الفرنسي الحاد حول المبادرة الفرنسية لاحياء مفاوضات التسوية الإسرائيلية الفلسطينية. كان المعلوف ضيفاً فرنسياً، حاول التلفزيون الإسرائيلي إستخدامه ضد حكومته، حكومة فرنسوا هولاند المتصارعة مع حكومة بينامين نتنياهو. وكان لبنان وما زال بريئاً هذه المرة من تهمة التخابر مع العدو.
لعل الكاتب المعلوف ما زال يحتفظ بهويته اللبنانية القديمة، بوصفها ذكرى بعيدة، صورة بالية من ألبوم عتيق. لكنه يحمل ويتجول بجواز السفر الفرنسي، الذي صار منذ أكثر من أربعين عاماً هويته الأولى، مثلما صارت الفرنسية لغته الأولى أيضاً، لا يكتب إلا بها، ولا يستخدم العربية إلا عندما يستدعي الظرف الثقافي- السياسي الفرنسي، للدلالة على قدرة الثقافة الفرنسية على استيعاب الهويات الاخرى، ودعوة المهاجرين الجدد إلى السير على خطى الكاتب اللبناني المولد الذي إستحق عضوية الاكاديمية الفرنسية.
وبعكس الشائع عن المعلوف، فإن كتابه التأسيسي الأول "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، كان بداية الافتراق عن الهوية اللبنانية المشرقية، والهجرة إلى فرنسا وأوروبا التي كانت تعد في تلك الحقبة لاعتذارات طريفة عن تلك الحروب. كان بداية الغربة، وليس العودة من المهجر. وكذا الأمر بالنسبة إلى روايته الرائعة "ليون الأفريقي" أو "سمرقند". بعد حين وجه الكاتب رسالة الوداع إلى لبنان في رواية "صخرة طانيوس" التي نال عليها جائزة "غونكور، مع أنها لم تكن أهم أعماله ولا أعمقها. لكنها كانت الأصدق والأبعد أثراً في العاصمة الفرنسية.
إسكتشاف الهوية اللبنانية للكاتب الفرنسي هو نوع من الفولكلور اللبناني الطريف، الذي ينفع في مواسم السياحة والاصطياف لكنه لا يثير إلا الضحك. أما استدعاء تلك الهوية الافتراضية واسقاطها على الصراع مع العدو الإسرائيلي، فتلك سذاجة أو جهالة كبرى، تجاه الكاتب الذي كان في "إقامته" اللبنانية القصيرة، ينتمي إلى ثقافة سياسية متصالحة ومتحالفة مع ذاك العدو، ومعادية للقضية الفلسطينية في جوهرها العميق، لا في تجربتها اللبنانية البائسة، ومناهضة للثقافة العربية، إلا في ما يفيد البقاء على صلة مع جمهور القراء العرب، وهم كثيرون. والتاريخ شاهد، والموقف معلن، ولا يقتصر على زيارة مكتشفة حديثاً إلى مستوطنة كريات شمونة الإسرائيلية في ثمانينات القرن الماضي، أو في الترويج لاتفاق 17 أيار اللبناني الإسرائيلي الذي وقعه أمين الجميل.
أمين المعلوف كاتب فرنسي ليس إلا. أطلق منذ سنوات فكرة هويته الكونية لكي يتخفف ربما من ذلك الإرث اللبناني الثقيل، ولكي يكسب جواز سفره الفرنسي صفة عالمية، ولكي يستطيع مقاربة المسألة الشرقية أيضاً، كأي مستشرق يشعر بالذهول إزاء إستمرار صراعات الشرق وأهله، وينادي بمصالحات تاريخية.. ولو من شاشة إسرائيلية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها