ليس كل أنصار المقاطعة من الممانعين. كلهم من موقع المنتمي بصدق إلى العروبة وإلى جبهة العداء للمشروع الصهيوني. وبعضهم يوظف نهج المقاطعة ليدافع عن النظام السوري ويناصر الاستبداد، هؤلاء هم الممانعون، وهم ليسوا مقصودين بهذا الكلام من القلب إلى القلب، لأنهم في انحيازهم إلى الاستبداد باتوا قساة القلوب ولم يعد يكفي نضالنا المشترك لنكون وإياهم في خندق التفكير الواحد.
مع هؤلاء وأولئك تشاركنا عمراً من النضال في سبيل القضايا القومية وفي الطليعة منها قضية فلسطين، ومعهم ذقنا الحلو والمر وكنا نرفع رايات النصر غداة كل هزيمة، ومعهم علقنا الآمال على المؤتمرات العربية المتتالية وعلى جبهة الصمود والتصدي ودول الطوق والأنظمة التقدمية وعلى التحالف مع المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي. ومعهم، في إطار الحركة الوطنية اللبنانية والقيادة المشتركة اللبنانية الفلسطينية تشاركنا الخطابات والمنابر والمؤتمرات والمظاهرات وكل أشكال النضال السلمي والكفاح المسلح دفاعاً عن "وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديمقراطي وعن الثورة الفلسطينية"
خروج مسلحي الثورة الفلسطينية من لبنان شكل منعطفاً حاسماً في مسار الثورة وشعاراتها وبرامجها، بعد أن رفض أبو عمار الخروج إلى سوريا واختار البحر بعيدا بعيدا عن سطوة النظام السوري الذي أدخل جيشه إلى لبنان تحت مزاعم حماية المسيحيين وحماية وحدة لبنان وحماية الثورة الفلسطينية، لكن هدفه الحقيقي هو وضع اليد على لبنان شعباً ودولة وأحزاباً وعلى المقاومة الفلسطينية، لعله، بحيازته مزيداً من الأوراق، يحسن شروط تسوية محتملة مع اسرائيل. غير أن الأحداث المتعاقبة أثبتت أن هذا النظام لم يكن يريد أي شكل من أشكال التسوية، حتى تلك التي تعيد له الأراضي السورية المحتلة في الجولان، وأن همه الوحيد هو تأجيل التسوية إلى أبعد أمد ممكن، مع التمسك بشعارات المواجهة، لعل ذلك يمكنه من إدراج "دولة بني الأسد" من ضمن الدويلات التي حكمت سوريا ذات ردح من الزمن، وهذا من طبائع أنظمة الاستبداد في كل زمان ومكان.
سياسة المقاطعة نشأت قبل كل تلك التطورات واستندت إلى قرارات عربية كان يعتبر الخروج عليها خيانة لوحدة الصف العربي ولمؤتمرات القمة التي كانت تحترم، ولو شكلياً، وحدة الموقف القومي في مواجهة الغطرسة الصهيونية والتعاطف الدولي معها. وقد استحقت المقاطعة معناها في ظل التضحيات الفلسطينية ، ولاسيما تلك التي خاضتها الثورة بقيادة أبو عمار وبالتحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية، وفي ظل احترام شكلي لوحدة الصف العربي، ما أحدث عن حق انعطافاً في الموقف الدولي كرسه وقوف ياسر عرفات على منبر الأمم المتحدة.
في مؤتمر مدريد سقطت كل الشعارات التي صاغتها مؤتمرات الاجماع العربي، يوم غادرت الأنظمة، بالاجماع أيضاً ومن غير تحفظ، لاءات الخرطوم الشهيرة، لا اعتراف، لا صلح، لا مفاوضات، واستبدلت اللاءات بلا واحدة ضد التطبيع، وصاغ الشيخ محمد مهدي شمس الدين معادلته الشهيرة تحت عنوان ضرورات الانظمة وخيارات الشعوب.
المقاطعة كانت جائزة وممكنة وضرورية، بل حاجة عربية وفلسطينية في ظل عبد الناصر وأبو عمار والاتحاد السوفياتي ودول عدم الانحياز والتضامن الأفروأسيوي، لأن ظروف تلك المرحلة ساعدت على فضح "التمسكن" الاسرائيلي، وأعادت الاعتبار لصورة الفلسطيني المقهور المغتصبة أرضه والمعرض دوما مع إخوانه العرب في دول الطوق إلى عدوان صهيوني همجي مستمر في سلسلة المجازر الممتدة من دير ياسين النكبة إلى بحر البقر في حرب الاستنزاف المصرية إلى قانا وبطولات المقاومة في لبنان.
اليوم، أية صورة للعربي يمكن أن يتباهى بها أمام العالم؟ صورة أنظمة الاستبداد التي كانت وراء رفع راية المقاطعة وانفضحت بعد بوعزيزي وانكشف نزوعها إلى عنف ضد شعوبها أين منه عنف الصهيونية، أم صورة الوحشية التي تفوق وحشية النظام الاسرائيلي، أم صورة استبداد ذهب ضحيته من الشعوب العربية آلاف أضعاف من سقطوا على يد الجيش الاسرائيلي؟ أم صورة أحزاب أصولية تقدمية ودينية وقومية فاقت بدمويتها ما حصل في راوندا قبل عقود من الزمن؟ أم صورة الارهاب المجسد في داعش والقاعدة وسائر الأحزاب الدينية ؟
ليست المرة الأولى التي تقوم فيها القيامة على علاقة ثقافية اعلامية مع يهود أو مع مؤسسات صهيونية. فقد سبق للممانعة ذاتها أن أقدمت على فصل أدونيس من اتحاد الكتاب العرب في سوريا، وكاد اتحاد الكتاب اللبنانيين يحذو حذو أخيه البكر المرشد والوصي، وها هو اليوم يكرر التجربة ذاتها من غير أن ينتبه إلى أن مواقف أدونيس الحديثة أثبتت خطأ إدانته القديمة .
ربما آن الأوان أن تسقط من لغتنا كل المفردات الموروثة من أنظمة الفتك القومي وأسلحة دماره الشامل، وأن نرسم خارطة طريق جديدة للصراع مع النظام الصهيوني ومع سائر أنظمة الاستبداد القومية التقدمية، لتخليصها خصوصا من لغة التخوين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها