يكاد ميشال عون أن يكون المخدوع الوحيد من مناورة معراب. للوهلة الأولى، بدا سرابها مبهراً للجميع، فمضوا في حساب البوانتاجات الانتخابية واحتمالات النصاب، فيما عكف آخرون على التمييز بين حقيقتها ومجازها، مستعينين بكل مناهج التحليل والتأويل، من بينها المنهج النفسي المبني على قراءة حركة الأجساد وقسمات الوجوه. قبلها، كان يبدو الجنرال كتلة من قلق، "كأن الريح تحته"، تصريحاته مشحونة بالغضب والتوتر وبمرض الرئاسة، إلى أن كان اللقاء بمثابة التميمة التي هدأت من روعه مثلما هدأت من روع الحدث الحمراء في قصيدة المتنبي، التي "كان بها مثل الجنون"، قبل بدء المعركة.
ليست أفضل مصيراً من سواها، ذلك أن لجة الأزمة اللبنانية قادرة، كما عودتنا من بداية الحرب الأهلية، على ابتلاع كل مشاريع الحلول التي يحاول أصحابها أنضاجها قبل الأوان، ولأنها تشبه سائر المبادرات، إذ ما أن يعلق المستعجلون آمالهم عليها حتى ترتد عليهم العجلة خيبة وإحباطاً.
سمير جعجع الوحيد من بين الحزبيين الذي راح يتحمس للمبادرة ويروج لها في ظل صمت داخل جسد القوات اللبنانية،العصي على الخروج من اصطفافات الماضي ولغته، تماماً مثل كونه شبه وحيد في نقده الذاتي الذي جعله، دون سواه، يخرج من مظلوميته إلى الحرية مصحوباً بسعة الرؤيا، فيما ظل مناصروه المتزايدون عدداً يرزحون تحت عبء هذا النقد العالي الكلفة، ما وضع مراجعته العاقلة على حافة المجازفة برصيده المسيحي، وعلى حافة الحنين إلى منافسة أثيرة على قلوب القواتيين، في الملعب المسيحي لا في الملعب الوطني،وصار عون هو الخصم والحكم الذي يطالبه القواتيون، بلسان المتنبي أيضاً، بألا يحسب ورم السنين الطويلة من التبعية والاستلحاق شحماً وطنياً.
مناورة هدأت عاصفتها بعد ساعات من هبوبها. قيل عنها أنها أعادت الأمور إلى نقطة الصفر، وسرعان ما ذاب ثلجها وبان مرجها، فظهر كل قديم على قدمه، وكل فريق على سلاحه، وبدا إجماع على صعوبة اكتمال النصاب في جلسة الانتخاب المقبلة، وعلى عدم نضج الظروف الاقليمية، الإيرانية تحديداً، رغم المطالبات الدولية التي لا تتجاوز حدود الرجاء والتمنيات وتظل دون التدخل المجدي والفعال.
على أن في المناورة وجوهاً سلبية أخرى، فهي شوهت صورة التنوع المسيحي الذي عدّه الحالمون بمثابة رافعة للنهوض بالوطن أو جسراً يعبر لبنان عليه من ضفة التزمت الطائفي إلى ضفة التعدد، فإذا بالمناورة تغلّب، لدى المواطنين المسيحيين،انتماءهم الديني على الوطني، وإذا بها تستهويها محدلة للانتخابات تشبه "استفتاء" الشيعية السياسية على المقاومة، وال" زي ما هي " لدى السنية السياسية، ووحدانية الزعامة الدرزية.
هكذا تكون المناورة قد توسلت لغة طائفية بامتياز في كلامها عن وحدة الصف المسيحي، وكأن طرفيها خارجان للتّو من حرب الالغاء المشؤومة، الشبيهة بحرب اندلعت ذات حين بين طرفي الشيعية السياسية، وعن الرئيس المسيحي وحماية الوجود المسيحي، وقد استسهل جعجع القفز فوق كلام ذي بعد وطني واجه به ، ذات يوم، "الخصم والحكم" في معركة حمي وطيسها بينه وبين عون حين الكلام عن حماية مسيحيي الشرق في كل من سوريا والعراق.
على أن أخطر ما فيها أنها فضحت خطاب الرابع عشر من آذار الذي أصم آذان اللبنانيين بتكرار أهمية الدولة واستحالة الحل خارجها، فيما هو يظهر على حقيقته شريكاً في عرقلة بنائها، ذلك أن انتهاك السيادة لا يتمثل فحسب بخرق الحدود وتجاوز القوانين وتشريع السلاح الميليشيوي وتعطيل المؤسسات وتدمير القضاء بل بتكريس منطق المحاصصة، وهي مصدر الخطر الأساسي على نظامنا الديمقراطي، لأنها تلغي معايير الكفاءة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، في الوظائف العامة والنقابات والجمعيات الأهلية وفي التمثيل السياسي كما في اختيار رئيس للجمهورية ، وتعتمد، بديلا منها معايير الولاء للحزب أو لفريق الوصاية أو للقوى الخارجية، بمعزل عن المؤهلات والكفاءة في معظم الأحيان، كما هي الحال في الترشيحات المفروضة فرضاً على اللبنانيين من خارج تلك المعايير.
حين تكون المناورة مكشوفة إلى هذا الحد في نظر الجميع، ما عدا ميشال عون، فهي لا تستحق إسمها وتغدو مجرد مقلب من مقالب السياسة اللبنانية تشبه لعبة القط والفأر (توم إند جيري)، وتنتظر الرد عليها بمقلب مشابه ، قبل سقوط التعليمة الخارجية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها