شجعت كثافة التحركات الدبلوماسية وما طرحته من آراء على المزيد من فوضى الحلول السياسية، خاصة أن أغلبها يدور في دائرة التظاهر بالعمل لا العمل، يدرك أصحابها ألا فائدة من حديث في الأزمة السورية طالما الفرقاء الحقيقيون الممسكون بزمامها ليسوا على عجل في انهائها. لذلك بدت جهود المبعوث الدولي ديمستورا ولو أنها أخذت طابعاً حركيا جدياً تدور في هذا المضمار العبثي طويل النفس، على الرغم من أن تأخير التسوية، يعني المزيد من الانهيار في مؤسسات دولة ضعيفة تحاول التماسك، يشهد عليها تداعي الخدمات في كلا المناطق المحررة والموالية، وازدهار أعمال ميليشيات تتعيش على النهب، دون تمييز بين المناطق، فالدفاع الشعبي ينهب، والمعارضة الميليشياوية لا تقصر في تجويع المحاصرين. أما عن الوحدة الوطنية التي هددت منذ اليوم الأول من الاحتجاجات، فتستشري تفاعلاتها بانقسام مظاهره لم تتأخر في مجتمعات منقسمة أصلاً، جاءت الثورة وكشفت عن صدع يتعمق من يوم لآخر. فلا رتق لما أصبح شرخاً.
المساعي الدبلوماسية التي تركزت منذ سنوات على البحث في المرحلة الانتقالية ودور رأس النظام ومستقبله، تشعبت إلى دور الرئيس، هل يبقى لولاية المرحلة الانتقالية التي قد تستمر بضعة شهور، أو بضع سنوات. أدت هذه المساعي إلى القبول بفكرة بقائه بعد اقناع المعارضة وابرام تفاهم بين جميع الأطراف. كل هذا اللاجهد والدوران في المكان، قد يطيح به ما يجري على الأرض، وهو ما يعرفه الجميع، لذلك يبدو هذا اللاجهد يدور في عالم آخر، النتائج على الأرض هي التي ستحدد مستقبل سورية، والقتال تتحكم فيه القوى الإقليمية، ومن بعيد الناصحون الأمريكان والأوربيون، أحيانا لا يكتفون بالنصح، بل ويملون أفكارهم بالضغط على الأطراف الإقليمية. وهكذا يبدو أن ما يجري على الأرض زئبقي ومتحول، آخذ تارة في التراجع وطوراً في التقدم. هذا الإيقاع نفسه وقع منذ نحو عام في مهب عاصفة "داعش" التي فرضت نفسها كلاعب أول على أرض متحركة، وجذبت النفط والسلاح والموت إلى جانبها، وباتت مؤخراً تهدد الغرب. أدى هذا التعقيد الإضافي الذي تحول إلى رئيسي لتحويل سورية وبشكل متفق عليه إلى ساحة للحرب مع الإرهاب، بينما كانت ساحة لاستنزاف سورية، والتخلص منها بتفتيتها على يد نظام الممانعة، الذي لا يقبل بأي تفاهم مع شعبه ولو بالحد الأدنى. ولم يكن هذا السياق لولا أن الغرب تخلى عن دعاواه الديمقراطية، إرضاء لإسرائيل، ولو سُحقت الحرية المنشودة التي نادى بها المتظاهرون، وكان الثمن مئات آلاف الضحايا المدنيين.
اليوم على الغرب أن يدافع عن نفسه، ليس في سورية وحدها، وإنما على أراضيه ضد الإرهاب الذي تركه يستفحل من دون أن يدرك أن امتداداته ستنال منه، بينما كان يأمل أن يقضي الإسلام على الإسلام والعرب على العرب، دونما فرق بين معتدل ومتشدد، مادامت إيران وروسيا تولجتا حل الأزمة السورية.
الحل الذي كان يتردد في الكواليس بقوة، وكان الأطراف ينفونه بقوة، هو تقسيم سورية، ولقد رسمت على أساسه خرائط روعيت فيها إقامة دويلات بقاؤها لأجل غير معلوم، ريثما يحل أجلها بالاقتتال مع الخارج وفي الداخل. تحولت في الفترة الأخيرة إلى فكرة أكثر جدوى، مادامت الحلول كلها أثبتت فشلها، فسورية التي باتت بلداً تحت سن الرشد، أو بلداً بلا رشد، يلزمها حل موفور النجاح يحظى بضامنين لا يقومون بالأشراف عليه، بل العمل على ابتلاع سورية بتقاسمها فيما بينهم: إسرائيل، إيران، الأردن، تركيا، العراق، ودولة الخلافة "داعش". وتختفي سورية من على وجه الأرض، ولا يبقى من السوريين لا هوية ولا جنسية ولا عروبة أو قومية، فقط أديان ومذاهب وأعراق.
هذا السيناريو المفترض، أحد المقترحات الواردة، التي يبدو من المستحيل تحققها، لكن السياسات الدولية، عندما تتبنى الواقعية وتدعيها، فالحماقة والاجرام كفيلتان بنقل هذا السيناريو من المتخيل إلى دويلات واقطاعيات وكانتونات وحدود واعلام.
أما بالنسبة للحقائق، وهي الأقل حظاً؛ التحول الحقيقي قد لا يحدث لأنه اشبه بانتظار "غودو"، حين سيأتي سوف يجد السوريون بكافة أنواعهم التي بقيت على قيد الحياة في انتظار الموت. إن المنقذ ليس أمريكا ولا أوربا أو إيران وروسيا، وإنما السوريون أنفسهم، يساعدهم عرب تحرروا من وصاية الغرب والخوف من الجيران الإسرائيليين والإيرانيين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها