الثلاثاء 2024/08/13

آخر تحديث: 16:27 (بيروت)

بيروت التي أكرَه

الثلاثاء 2024/08/13
بيروت التي أكرَه
بيروت "المدينة المتاهة" لـزينة عاصي
increase حجم الخط decrease
ينساب التناقض طوال الوقت، من قصيدة نزار قباني. "أكرهها" التي غناها كاظم الساهر، تتحدث عن حقد مُريدٍ يشتهي الوصال. ربما هي شهوانية الذكورة لأنثى بارعة الجمال، أو حتى قوانين الجذب التي يدين بها الحب بلا توضيح.

كلّما مرّت بيروت في البال، يتهادى لي صوت كاظم: "أحب هذا اللؤم في عينها، وزُورها إن زوَّرت قولها"، وأتخيّل مدينة بكاملها تقف على صخرة الروشة، تكشف عن كاحلها وترقص وترقص حتى الثمالة، يغيب الكون حولها وتُبقي على توازنها على رؤوس الأصابع حتى يقدّم لها الفجر الطاعة المطلقة.

هو قدر الدم السوري. يمرّ من الأبهر الذي يستعير اسم "بيروت" إذا ما أراد التنكّر. هل سمعتم عن ماءٍ مُزج بالزيت؟ هو ذا... نستمع إلى فيروز تغني "سوا ربينا" كل صباح، ونرتشف قهوتنا على عجل قبل أن نهمّ كلّ إلى شأنه. نتجاهل الاستنكار، وتصريحات علنية بأننا مغول مُستعمِرون، متخلّفون لا نفقه من اللغات سوى تحية صباحية بلفظة فجّة، كمَن يحاول تركيب ذَيل الطاووس لدجاجة عرجاء. كل هذا نعيه تماماً، إلا أنه، وكما قال الوسوف، الهوى سلطان، ولا سلطان لعاشق على دقّات قلبه تسيّره إلى حيث هواه وتخذله كلّما دقّ للنسيان باب.

لماذا لا أستطيع نبذ بيروت من الذاكرة؟ حين كنا صغاراً كانت أشكال الحلوى في المدينة لافتة. ورغم أن الحلوى التي اعتدناها قد يتفوّق طعمها عليها، إلا أننا نُفتن بها. كذلك البيتزا حين سمعت بها للمرة الأولى وتذوقت مزاجها المدهش. المسلسل الكرتوني المفضّل صباح الجمعة، علامة العشرة التامة على صفحة الإملاء، وبيروت أول مرة!

زرتُ بيروت حين كنتُ في الثامنة، اصطحبنا والدي في العطلة الانتصافية بحكم عمله في منطقة خلدة، وحين بلغنا مشارف بيروت كان مشهد البيوت المتهالكة متصدراً: "كيف لهم أن ينشروا الغسيل في شرفة بيتٍ متهدم؟". تنهّد والدي وقال: "لازم كنتِ تجي بيروت من أيام الثمانينات لتعرفي تزعلي عليها صح!". ما زالت جملة أبي تتوارى خلف البيوت المقصوفة بقذائف فعلت كما الجدري بجسدٍ بضّ، لا الجدري استطاع أن يغطي على جمال الجسد، ولا ادّعاء العافية استطاع أن يزيل آثاره.

نحن غير المرغوب فينا هنا، كنا نرى ومضات احترام في عيون الأشقاء. أكثر من عشرين قصة قرأت لصديقتي الفرانكوفونية، وسط تصفيق من أمها ومنها، إذ كانت قد كدّست الكتب المكتوبة باللغة العربية، والتي حصلت عليها من أعياد ميلادها، في علبة خشبية كبيرة. أشكو التعب، فتفتح سومر، التي لا تعي معنى اسمها، كتيباً آخر وتستحلفني بأنه سيكون الأخير، وبأنها تفتح القصص مراراً وتتحسّر بأنها تشاهد الصور من دون أن تقرأها، فلغتها العربية لا تسعفها. أشرح لصديقتي معاني الكلمات الفصيحة، وألوّن صوتي كما حكواتي قهوة النوفرة، ألوّح بيدي كلّما اشتدت الحبكة، وأرقق معاني وصل الأمير بسندريلا... يستمر المشهد كعرض للكشّاف في يوم احتفال وطني، إلى أن تعود الهوة واسعة بيننا عند مسلسل كرتون ناطق بالإنكليزية، تتفاعل معه سومر وإخوتها، لأستعير مكانها وهي تنظر في صُور الكتب العربية.

تحسدنا بيروت اليتيمة على الماء والكهرباء، وتندب شقاءها وبأنها عملت في المهن كلها منذ نعومة أظافرها، لتعيل ذاتها وتُنفق على الدواء والأناقة والعِلم. كبرت وهي ترعى نفسها بنفسها. وكلّما اشتد ساعدها، صُفعت على وجنتيها الزهريتين، لكنها لا تبكي. فبيروت جفّ دمعها قبل أن تبلغ حتى. لم تعد تأمن لأحد، حتى وإن أغراها بغزل البنات وبأنه سيبتاع لها المثلجات الملونة. عركتها الحياة جيداً، فنضجت، إلا أن خميرة خبزها كانت القسوة.

قاسية هي بيروت، على أولادها تارة، وعلينا مراراً، كزوجة أب تدّبر الفتن ليطردنا أبونا منتصف الليل من رحمته. تفتت لنا الحلوى وتقذفها بلطف من النافذة. تجرح وتداوي، تطرد وتحتضن، تَشتُم وتطبطب. بيروت بالتأكيد أنثى. ليس لأن اسمها مؤنث، بل لجمالها وجبروتها.

وحكَمها دأب الأنوثة حتى في مُصابها ومُصابنا فيها، إذ جلست صبيحة 5 آب 2020، مكلومة على شرفة الرماد بثوبها السماوي الشفاف، رافعة شعرها المبتلّ غير المُسرّح، فبدت فتنتها حزينة، لكنها دائماً فاتنة. في ذاك الصباح، شربَت قهوتها ساخنة، فالجميلات لا يرضينَ بالقهوة إلا ساخنة، حبّة الهال زورق يجذّف لشفتيها، يقبّل خجلاً ويهرب، وليلها لا ينام. ودأبت تنزع شظايا زجاج من كعبها النازف، وتنظر للسماء لتسأل سؤالها المكرر ألفاً: "لمَ أنا يا رب الجمال وهبتني إيّاه صرفاً خالصاً مكتملاً!.. فلم أسلَم من كلاب الشوارع ولا من ملوك... متى يزورهم المَلل؟ ومتى تفرضه عليّ يا ربّ المِلل؟".


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها