الخميس 2024/06/27

آخر تحديث: 17:45 (بيروت)

عن أبطالنا الخارقين

الخميس 2024/06/27
عن أبطالنا الخارقين
القفز على شاطئ غزة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أذكر حين كنّا صغاراً، كيف كنا نرى من يكبروننا سنّاً أبطالاً خارقين، إذ يمكن لرجل أن يحمل طفلاً بيد واحدة، فننظر بدهشة منطقية إلى هذه البطولة. بل وأكثر من ذلك، كان عمي يحملني أنا وشقيقي بيد واحدة، فنشعر أنَّ عمّنا هذا هو أقوى شخص في العالم، ولو حضرنا لعبة مصارعة، تخيلنا أن هذا المصارع بالضرورة لن يستطيع هزيمة عمي، فالأخير يحمل كلينا بيد واحدة، ولا أصدق سوى أنه البطل الذي سيحميني، كما سيحميني آخرون رأيتهم أبطالاً، كوالدي، وشقيقي الأكبر، وغيرهم ممن يبقون أبطالاً. 
والمفارقة أن شيئاً من هذا الشعور يبقى معك حتى حين تكبر، يعود الطفل في داخلك في كلِّ مرة، ويؤكد أنَّ أبطالاً ما زالوا في روايتك، يقهرون كل شيء، ولا تؤذيهم الدنيا.

على عتبة البيت يجلس طفلٌ، شعر أنَّه فقد الحياة حين ماتت جدته، هي بطلة بدورها لكن من نوع آخر، فلا شيء يشبه "كرابيج الحلب والعوامة" التي تأتي بها الجدة، حتى وإن اجتمعت كلُّ المحال والمصانع والأقارب للإتيان بمثلها، لن يجلبها مع رائحة "الداير" الذي ترتديه الجدة؛ فتشعر أنَّ البطلة هذه أيضاً لا يمكن أن تموت يوماً.. إلا أنها قد تموت في النهاية.

حين بدأت الحرب على قطاع غزة، أحسست أنَّ عدداً من الناس لا يمكن أن تمسهم الحرب، حتى وإن استهدفتهم القذيفة مباشرةً، ذلك أنَّني أخجل من تصوّر الوقاحة التي قد تصل إليها قذيفة ذكية أو غبية، حين تقتحم شخصاً لا يمكن لشيء أن يؤذيه، لا يُجاز لشيء أن يقلل من الاحترام الذي يراه الطفل في أبيه أو بطله المفضّل، سيقول حتماً إنَّ أبي لا يموت، وإنَّ عمي إن أمسك بكم فسيضربكم جميعاً، أو ربما من الأفضل ألا يعرف بالخبر أصلاً، لأنَّ ذلك سيزعجه كثيراً؛ فتصير الدنيا بلا معنى. 

والمشكلة أنني ما زلت أحفظ هذه الفكرة في ذهني عن كثيرين ممن رفضت في أحيان أن أرى صورهم "الجديدة"، محافظاً على حضورهم الذي ظل في مخيّلتي، ومحافظاً على قدرتي على استيعاب ما يجري، أو مؤجلاً عدداً رهيباً من الأخبار التي لا تُسمع من جهتين، من جهة أنها لا تهم أحد، أو أنه ليس من مصلحة أحد سماعها، لكنها تمرُّ سريعةً وسط كومة الأخبار، وتصير العودة لها لاحقاً أمراً غير مفهوم في فراغ خلقه الوقت. لقد مستهم الحرب كما مسّت أحد أقربائي الأعزاء الذي صار هواءً، دون صورةٍ أخيرة، فقلت: "أحسن، ربما لا أريد أن أرى صورةً أخيرة".

من يقرأ "انقطاعات الموت" لساراماغو، قد يكتشف في لحظةٍ ما أنَّ في الموت نعمة، أو أمنية، أو مساحة للتخيل والشعور بالشبع.. الشبع من الحياة، من خياراتها وقراراتك فيها، وصولاً إلى فقدان المعنى الذي كان موجوداً قبل أن ينقطع الموت. لكنّ ما جرى يخالف الموت وانقطاعاته، إذ لا أحد في هذه الحالة يختار حياته أو موته، لكنه يختفي كساحرٍ حقيقيٍّ حين يصبح جزءاً من الذاكرة، وإلا فكيف يمكن لكل هؤلاء أن يرحلوا هكذا دون أن ينتبه العالم إلى شيءٍ مما جرى؟

لقد أسقطت القذيفة كلَّ هذا، لم تكتف بالدار والشوارع والذكريات، بل أسقطت حضور الناس في كل مكان، وفي كل فكرة. أسقطت احترامنا للعالم، والحضارة ربّما، والإيتيكيت.. فما معنى أن نجلس على مائدة الطعام نأكل بشوكة وسكين، أو بدونهما، مدّعين أننا نمارس طقساً آدميّاً، أو ننزل إلى الشارع نرتدي ما يُظهر صورتنا بشكل جيد، لأنّ من غير اللائق الخروج "ملط"، ما هي هذه الصورة بالله؟ يعني ما هي الصورة التي يعتقد الإنسان أنه عليه الظهور عليها، كي يكون إنساناً.. يشعر بآدميته؟.

أسقطت القذيفة كلَّ شيء، وكسّر ما يجري في غزة رؤوسنا، فلا شيء حقيقيّاً، ولا شيء صحيحاً، وكل شيء يقال أو يُزاد هو علكٌ للماء، أو حاجة للصراخ ليس إلا. الناس يصرخون ويحكون ويبكون ويُعبّرون وينساقون ويصطفون، ويقررون كل شيء، إلا إيقاف القذيفة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها