نشأتُ في جيل عاصر صعود "حزب الله" في لبنان، حيث تشكل وعيي السياسي وتجربتي الشبابية في ظل وجود مقاومة لبنانية تواجه الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.
كنا نتابع الأخبار بشغف على شاشات التلفاز، نتابع العمليات النوعية التي تنفذها المقاومة ضد مواقع الاحتلال، مثل موقع الدبشة أو علي الطاهر، أو عمليات اقتحام وتفجير عبوات، وننتظر مقاطع الفيديو التي تبثها قناة "المنار".. ونحزن لشهداء عرفناهم في أحيائنا شباناً مندفعين، أو طلاباً في مدارسنا، أو أصحاب ملاعب كرة القدم..
كانت المقاومة، بكل أطيافها، في ذلك الوقت، عبارة عن فعل تحدّ للغطرسة الاسرائيلية، واحتلال الأرض، وسلب الحريات، والقتل اليومي. مقاومة بجهود متواضعة، دفعت الاحتلال الى هزيمة في العام 2000، وخسرت، منذ الثمانينيات، ثلة من الشهداء الذين عرفناهم، أو سمعنا بهم، من مختلف القوى المقاوِمة. ارتبط فعل النضال آنذاك، بالتضحيات، وبالتواضع.
من التسعينيات إلى 2006
طوال فترة التسعينيات، لم يكن هناك أي تمايز بين المقاومة والجيش، بوجود حاضنة اجتماعية أيضاً. رأينا في "حزب الله"، حركة وطنية تناضل إلى جانب الجيش اللبناني، الذي قدم بدوره شهداء في سبيل تحرير الجنوب العام 2000 وأيضاً في حرب 2006. هذا هو الفهم الذي ترسخ لدى أبناء جيلي عن الحزب، وهو ما تشكل من خلال ما عاشه هذا الجيل، وشهده المجتمع اللبناني من تضحيات.
خلال حرب 2006، كنتُ في بداية رحلتي الجامعية. لم نكن نعرف هويات المقاتلين؛ كانوا زملاء لنا على مقاعد الدراسة، وفوجئنا عندما نعاهم الحزب كشهداء بعد المعارك. كانوا يعملون بسرية تامة، لا أحد يعرف عنهم شيئاً، وفقط يُكتشف انتماؤهم للمقاومة عندما يستشهدون.
ظهور المحللين
لكن في مرحلة ما بعد 2006، بدأت تظهر صورة مختلفة، كرّسها ضيوف في الإعلام، مقربون من المحور. ظهر محللون وناشطون بشكل متواصل للدفاع عن الحزب في مختلف مساراته، وبنوا سرديات أسطورية، وروّجوا لسياقات مختلفة تماماً عما عرفناه واختبرناه.
رسمت هذه التصورات في ذهن الناس، صورة لـ"حزب الله" كقوة إقليمية لا تُقهر، وتم إخراجها من صورتها ووظيفتها كحركة مقاوِمة، يفترض أنها تتبع عسكرياً تكتيك "حرب العصابات"، وقادرة على المواجهة البرية بشراسة. صوروها كجيش كامل، يمتلك منظومات الدفاع الجوي القادرة على فرض حظر جوي، فضلاً عن قدرات عسكرية هائلة تتجاوز التكنولوجيا العالمية التي تستوردها وتطورها اسرائيل.
رسائل إعلامية مكررة
على مدار السنوات العشر الماضية، كانت الرسائل الإعلامية تصل أحياناً إلى حد التكرار، حتى أن الجمهور بات يستبق ما سيُقال، بمجرد ظهور أولئك المحللين الذين وُصف كثر منهم، بالأبواق. ومع مرور الوقت، أصبحت صورة الحزب كقوة لا تُهزم، تعزز الاعتقاد بأن لديه قدرات تفوق ما تمتلكه الجيوش. كان المحللون يخرجون ليقنعوا الناس بأن هذا الحزب تخشاه الولايات المتحدة الأميركية!
بين الواقع، والتصوير الإعلامي المُبالغ فيه، وقع جمهور الحزب في إحباطه، لدى نعي قيادات فيه، وشهداء آخرين يتوالون يومياً جراء القصف الاسرائيلي في سائر المناطق اللبنانية، أو على الحافة الحدودية.
أعاد اندلاع الحرب التساؤلات حول كيفية اختراق الحزب، ولماذا لم يحقق وعوده؟ وهو ما أحدث صدمة لدى الجمهور نتيجة التوقعات التي صورت الحزب كقوة إقليمية ومنظمة فتاكة متطورة على كافة الأصعدة.
في الواقع، يتحمل هؤلاء المحللون، الذين ما انفكوا حتى الآن عن الذهاب الى مديات أسطورية في التحليل، مسؤولية هذا الإحباط، في وقت يتواضع مقاتلو الحزب، ويقولون إنهم يواجهون، ويتحدون التفوق الاسرائيلي، ويؤكدون أنهم "عين تقاوم المخرز" الاسرائيلي، وأسلحته الأميركية.
المقاومة اليوم
تعيدنا الآن الأنباء عن المواجهات على الحافة الحدودية الأمامية، إلى تجربة المقاومة منذ بداياتها. نتذكر التضحيات والإنجازات على مدى تلك السنوات. النهج نفسه مستمر، لكن بوسائل وتكتيكات متطورة وتجهيزات حديثة. لا غرابة في ما يجري الآن على الجبهة من عمليات، عبر تمركز مجموعات المقاومة في مواقع طبيعية محصنة، بانتظار تقدم قوات الاحتلال للانقضاض عليها بالنيران. هذه هي المقاومة التي عرفها اللبنانيون. صحيح أن الوسائل والتكتيكات والتقنيات تطورت، لكن لم يتغير الأسلوب؛ فقد عمل الحزب على مدار 18 عاماً للتجهيز لما يحدث اليوم على الحدود.
ما تخوضه المقاومة اليوم، هو ما خاضته خلال مسيرتها على مدى 40 عاماً، وليس ما تصوره المحللون، وضللوا الجمهور به. "حزب الله" اليوم، هو تلك الحركة المقاومة التي نظمت نفسها، وبَنَت استراتيجيتها على الدفاع والاستنزاف. لطالما اعتمد الحزب على تكتيكات المقاومة والعمليات النوعية، ولم يزعم يوماً امتلاك التفوق التكنولوجي أو القدرة العسكرية التي تمكنه من مواجهة إسرائيل، بنديّة وتفوّق.
ثمة خطأ ارتكبه "حزب الله" خلال السنوات الماضية، ويستدعي المراجعة. حين انحسر مسؤولوه وقياديوه عن الشاشات، بدءاً من 2008، تركوا المساحة لمحللين لا يعرفون الحزب، ضللوا الجمهور، فكانوا سبباً في إحباطه. آلاف الدولارات التي خُصصت لدعم مراكز دراسات تتيح للمحللين الظهور على الشاشات بعناوين بحثية، لو أُنفقت على منظومة إعلامية واقعية بوظيفة محددة، لما ذهب الجهد، ولما أُحبط جمهوره الآن!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها