تقف خلف هذه الميزة أسبابٌ لا تتعلق بحجم الوعي السياسي لدى المحتجين بقدر ما ترتبط بحالة التصحر في العمل المعارض المحكوم بتغييب القيادت الوازنة في المعتقلات، وبتحوّل الواجهات الممثلة للثورة إلى شخصيات مُرتهَنة للغير أو متلهية بفُتات الامتيازات.
تجلّتْ أسبقية الشارع تلك خلال مرحلة تنازع الأولويات حين كان السوري يملك رفاهية المفاضلة بين الكرامة والخبز، وعادت اليوم لتتجلى بوضوح بعدما باتت غالبية السوريين في مناطق النظام تصارع على حافة الجوع.
وخلال الأيام الماضية، وقعت احتجاجات في مناطق متفرقة من الجنوب السوري بشكل خاص، وتركزت في بلدات وقرى محافظتي السويداء ودرعا، فضلاً عن مدينة جرمانا بريف دمشق. وتنوعت مطالب وشعارات المحتجين من التنديد بتدهور الأوضاع المعيشية إلى المطالبة بإسقاط النظام وإخراج المعتقلين.
وتعكس هذه الموجة من التظاهرات ودعوات الإضراب، حالة غليان شعبي جراء الأحوال المتردية التي وصل إليها الشعب السوري، والظروف الاقتصادية الخانقة.
وسادَ مزيج من الترقب والتفاؤل والتشاؤم في أوساط المتابعين، عقب تناقل فيديوهات وصُوَر تُظهر جرأة وتصميم المحتجين ممّن ترددت أصداء هتافاتهم، وأطربَوا الكثيرين في وسائل التواصل بشعارهم الأبرز "ما بدنا حكي وأشعار.. بدنا ناكل يا بشار".
والحال أن واقع التظاهر، على تمدّد رقعته، لم يأتِ بجديد لجهة المناطق، فبينما عبّر الناس عن مطالبهم في مناطق معروفة بضعف القبضة الأمنية للنظام، بقيَ سكان محافظات أخرى أسرى حساباتهم الفردية والجماعاتية بحسب المنطقة، بالإضافة إلى خوفهم من الوشايات أو الانزلاق نحو الفوضى.
وكانت قد سَبَقَ الحراك حملة موازية قادتها مجموعة تطلق على نفسها اسم "حركة 10 آب" قام ناشطوها بنشر قصاصات تضم عبارات مناهضة لنظام الأسد في عدد من المحافظات. وطالبت الحركة النظام بوضع جدول زمني لتحسين واقع السوريين من خلال رفع رواتب الموظفين، وإعادة الكهرباء، وتحديد تاريخ إعادة الدعم للخبز والمازوت والبنزين، وإخراج جميع المعتقلين من السجون، وإعلان خطة لمحاربة مصانع الكبتاغون وإغلاقها في كافة الأراضي السورية، والتوقف عن بيع أملاك الدولة للقطاع الخاص الأجنبي.
واعتبرت الحركة نفسها في أحد بياناتها بأنها "لا تختلف عن ربيع دمشق 2000"، مشيرة إلى أنها تسعى "لحلم جميل هو دولة سوريا الموحّدة". وفي المقابل تراوحت ردود الأفعال على بيانات الحركة ومنشوراتها بين متجاهلٍ ومؤيد ومشكك.
وعلى الأرض،
كان لافتاً أن محتجين في السويداء بَلوروا رؤيتهم حيال ما وصلتْ إليه الأمور بفعل "عجز الحكومة الناتج عن تحكم الأجهزة الأمنية الفاسدة بمؤسسات الدولة"، وفق ما أعلن متحدث باسمهم أشار إلى أن تصورهم للحل يتلخص في "اللامركزية".
ويُعتبر طرح كهذا، خطوة متقدمة مَطلبياً في إطار تداول الحلول، بعيداً من ترداد المُسلَّمات أو التهويل بسيناريوهات التقسيم. والأهمّ أن أصحاب التصوّر بادروا إلى دفع تهمة متوقعة ومنتظرة ستقابلهم عندما أعلنوا أن ذلك لا يعني "الانفصال عن سوريا الأم".
وكانت مَحاوِر مثل "طبيعة نظام حكم الدولة، واللامركزية السياسية، ومؤسسة الجيش" شكّلت مادة بحث ونقاش لأفرقاء سوريين وتحديداً "مجلس سوريا الديموقراطية" (مسد) و"هيئة التنسيق الوطنية" المعارِضة، اللذين دخلا في سلسلة حوارات ولقاءات في الفترة الماضية بهدف طرح خريطة "لحل الأزمة السورية".
وفيما تظهر مساعي من هذا النوع كمحاولة لفتح مسارات بديلة للحل السياسي عقب انسداد آفاقه بين نظام الأسد والائتلاف المعارض، يَبرُز سؤال عن إمكانية نمو الفكرة أكثر فأكثر، وتحول اللامركزية إلى مطلب شعبي جدي، أو موضوع شبه وحيد على طاولة المتباحثين.
وفي حالة السويداء مثلاً يمكن تخيّل مقومات عديدة لتطبيق الفكرة في محافظة تعيش بالأساس استقلالية نسبية غير معلنة. ومع الإقرار بصعوبة الانتقال للتفاوض والتنفيذ بوجود "شريك" من طينة نظام الأسد، تبقى الاحتمالات مفتوحة فيما لو وُجِدتْ جهات سياسية أو حزبية أو زعامات محلية عشائرية أو دينية تتبنى تصورات الناس وتفاوض باسمها.
من هنا يمكن القول أن الحراك المتجدد، على عفويته وتمسكه بقيم سوريّة جامعة كالحرية والعدالة، فإنه يقف في اللحظة الراهنة على مفترق طرق. يؤكِّد هذه الحقيقة أنّ الظروف الحياتية أفاضت كأس الشعور باليأس والحرمان والظلم. لذا فإن أثر محاولات الأسد لتلطيف الأجواء عبر زيادات الرواتب وتسريح الاحتياط سيظلّ يتبخر بمجرد ملامسته حرارة غضب السوريين.
وبناءً عليه فإنّ جولات الاحتجاج مرشحة للتكرار مع انتهاء مفعول "المهدئات". وحتى إشعار آخر ستبقى المشترَكات السورية، على اختلاف ترتيب الأولويات، عنواناً للتلاقي على الحلم بالتغيير. لكنّ أهمية "اللامركزية" بين المطالب قد تتبدل لاحقاً، خصوصاً إذا ما بُحّتْ حناجر الثائرين، واتضح لهم أن "لا حياة لمن تنادي" في الداخل أو الساحل. عندها ربما يُعيد كلٌّ حساباته من دون انتظار اتفاق جميع السوريين على طبيعة وسويّة مطالبهم، سواء كانَت في أخفض نقطة تحت سقف الوطن، أم بمحاذاته، أم أبعد ما يكون فوقه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها