تعرفت صدفة إلى برنامج "بيغو لايف" من طريق صديق لي، عندما توقف في أحد محلات تحويل الأموال في بيروت كي يضع في حسابه 40 دولاراً ليستعملها في برنامج "بيغو لايف". فهمت لاحقاً بأن هذا البرنامج شبيه بـ"تيك توك"، لكن بسبب منع "تيك توك" في العديد من البلدان، ومنها سوريا مثلاً، اتجه سكان هذه البلدان إلى تطبيق "بيغو لايف"، ومعظمهم، كما تبين لي لاحقاً، يريد تحقيق مردود مادي ثابت معدله 15 دولاراً شهرياً.
نعم، 15 دولاراً شهرياً هو ما يطمح إليه العديد من الشباب والشابات الذين لا عمل لهم بسبب وضع بلادهم المتردي.
طرق الربح من برنامج "بيغو لايف" الذي أطلقته شركة في سنغافورة، تشبه ما يحدث في "تيك توك"، إذ تعتمد في غالبيتها على إنشاء محتويات للبث، وكلما ازداد عدد المتابعين، ازدادت فرصة الربح لأن المشاهدين من أنحاء العالم يقدمون الجوائز والتبرعات على شكل نقاط. وقد شرح لي صديقي الذي يشكل جزءاً من هؤلاء المشاهدين، بأنه يقدم فاصوليا ودروعاً وسيوفاً وغيرها لبعض الأصدقاء الذين لا يعرفهم في الواقع، لكن علاقته توطدت بهم عبر بثهم المباشر، فقرر مساعدتهم بهذا الشكل، ودعمهم بهذا المبلغ الشهري يوزعه عليهم حسب قربه وبعده من الشخص صاحب المحتوى.
وأنت كيف تستفيد من هذا كله؟ سألت صديقي باستغراب، فطلب مني عندها أن أشاهد معه بعض اللايفات كي أفهم الجو العام. انتظرنا موعد بث أحد أصدقائه، وهو شاب من سوريا في منتصف العشرينات. فتحنا البث، وانهالت على صديقي الذي يدخل بإسم وهمي، الترحيبات: "أرحب أرحب". كانت مدة البث تقارب الأربع ساعات. وصاحب المحتوى أبعد ما يكون عن صاحب محتوى. أربع ساعات من اللا شيء، من الصمت، ليس لديه ما يقوله!
شرح لي صديقي بأن معظم مَن يشاركون في هذا التطبيق، فعلاً ليس لديهم كلام يقولونه، ولا مقومات لملء ساعات البث الطويلة. حتى أنهم يقومون بذلك على مضض ومجبرين، كي يقبضوا آخر الشهر بعض الدولارات إن حققوا الهدف العام الشهري الذي تضعه إدارة "بيغو لايف".
لم أستغرب أسباب مشاركة أصحاب المقاطع المبثوثة، لكني لم أفهم ماذا يستفيد مشاهدو هذه البثوث؟ لماذا يضيعون كل هذه الساعات من وقتهم، من دون متعة تُذكر ولا استفادة من أي نوع؟
"نشعر أننا عائلة واحدة، لدينا الهموم نفسها، وقد نتعارك في ما بيننا على حبة فاصوليا خطفها أحدهم من آخر، وقد نجتمع كلنا ضد واحد لإغلاق حسابه إن كان أنانياً ولا يساعد غيره. ونواجه هذه الفترة صعوبات أمام عدم التزام متعهدي التطبيق في مدننا بإعطائنا مستحقاتنا التي جمعناها بطلوع الروح، الشهر بأكمله!".
هذا ما شرحه لي صاحب البث "الفارغ"، بعدما سألته على الخاص، عن قوانين هذا التطبيق والمشاكل التي تواجههم كمشاركين. كان يتحدث بلغة لا أفقهها. مجتمع صغير داخل مجتمع أكبر، لديه رموزه الخاصة التي لا يفكها إلا أصحاب السيوف والدروع والفاصوليا.
هكذا أصبحنا هذه الأيام، كل فئة تنجذب إلى من يشاركها أي شيء، حتى اللاشيء يُشارَك!
في أحد البثوث التي شاهدتها، فوجئت بقطع البث من قبل إدارة "بيغو لايف" بعدما كان صاحب اللايف يرينا أصبعه المجروحة وكيف أن الدم يتناثر منها بعد قطعها بسكين أثناء الطبخ. كانت السكين مرمية على طاولة قبالته. أوقفت الإدارة البث لأنه احتوى على عنصرين من لائحة الممنوعات: الدم والأدوات الحادة.
يضاف إلى الممنوعات، أي مشهد إغرائي ممكن أن يوظّفه صاحب(ة) البث لشد عدد أكبر من المشاهدين. تقييم الإغراء، وصولاً إلى الإباحية الجنسية، متفاوت عند المسؤولين عن التطبيق، وتزيد مراقبتهم قبل نهاية الشهر بقليل لأن العديد من المشاركين قد يلجأون إلى شتى الوسائل، ومنها الإغراء الجنسي الصريح أو الموارب، أو الكلام الفاحش (الذي لديه جمهوره!) للوصول إلى الهدف الشهري المنشود.
إذاً، يمكن لمؤلف المحتوى أن يبتذل أي شيء. ذاته أولاً، عائلته، بيته، حميمياته، وحتى الصمت والفراغ، طالما أنه لا يوظّف "الممنوعات الصريحة"... في حين أن جولة سريعة تكشف أن المحتوى ذا الإيحاء الجنسي ليس نادراً هنا، لكن الاحتيالات لتمريره كثيرة. الاحتيال، ومعه على الأرجح الاستغلال بأشكال متعددة، لا يبدو محظوراً في هذه السوق.
يشترط التطبيق على المشاركين أن يكونوا بالغي سن الرشد، لكن هذا لا يمنع الكثيرين من تزوير شهادات ميلادهم إذا كانوا قاصرين، أو تبادل أرقامهم الخاصة عبر الواتسآب. وهناك حكايات أخرى تخرج من نطاق أي تطبيق، يكون عنوانها : "أفعل أي شيء مقابل زيادة الـ15 دولاراً في الشهر"!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها