والجولاني صاحب التناقضات الكبيرة في حياته على مستوى الولاءات التي لا تمس توجهاته الجهادية الصارمة نفسها، حاول استغلال المقابلة الأولى لزعيم في تنظيم "القاعدة"، منذ أسامة بن لادن في التسعينيات، مع الإعلام الأميركي، من أجل رسم صورة زائفة لنفسه ولتنظيمه المتشدد الذي يحكم مساحات واسعة من سوريا، بوصفه جزءاً من الثورة السورية المدنية، وهو ادعاء لا ينجح حتى في إيصاله إلى حافة النقاش ضمن الفيلم نفسه الذي يطبع صفه الإرهابية بالجولاني في عنوان الفيلم والتعليقات المصاحبة له، حتى لو استبدل "مولانا أبو عيون ملونة" ثيابه العسكرية أو تلك الملابس المرتبطة بخلفية دينية، ببزة رسمية لا تخفي الوحشية التي تبقى حاضرة في جُمل الجولاني المتناثرة هنا وهناك، ليس عند حديثه عن سلوكيات عناصره وأساليبهم، بل عند حديثه عن الأيديولوجيا التي يتبناها.
وصحيح أن الجولاني فك ارتباطه بتنظيم "القاعدة" العام 2016 إلا أن ذلك التحول يبقى شكلياً إلى حد كبير، وهو جزء من تحولات أكبر مر بها الجولاني منذ مطلع الألفية عندما تأثر بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصولاً لانضمامه للتنظيمات الجهادية في العراق قبل عودته إلى سوريا. وفيما يسرد الفيلم تلك التفاصيل المعروفة سلفاً للمتابع للشأن السوري أو الشأن الجهادي، يمكن فهم قليل من الأسباب التي تجعل الجولاني مناقضاً للقادة الجهاديين المتزمتين في ولاءاتهم. فهو رجل يمتلك غريزة بقاء أساسية تجعله قادراً على التقلب في الوقت المناسب، وبالتالي يصبح رجلاً قادراً على فعل أي شيء في سبيل الاستمرار، تماماً مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي لم يبالِ لمقتل نحو نصف مليون سوري وتشريد الملايين طالما أنه نجا من تبعات الثورة السورية العام 2011.
على أن تلك الغريزة حولت الجولاني إلى قيادي جهادي فريد من نوعه، حيث اكتسب تجارب جعلته يتطور ويقدم نموذجاً لحركة جهادية لا تشبه غيرها تماماً بقدر ما تستنسخ تفاصيل من تجارب جهادية ومليشياوية مختلفة لتطبيقها ضمن نموذج "جبهة النصرة". ويعني ذلك أن الجولاني الذي أتى من تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" العام 2011 لتأسيس "النصرة"، لم يعتمد نموذج "القاعدة" الدموي والعنيف الذي تبناه أبو مصعب الزرقاوي في العراق مطلع الألفية، بل استفاد من تجارب "طالبان" و"حزب الله" و"حماس" من أجل خلق قبول على المستوى الشعبي، وتقديم نفسه كجزء من الثورة السورية، ونجح لفترة وجيزة في خداع كثيرين بالحديث عن عدم استهداف المدنيين حتى لو كانوا موالين للنظام، وهو ما تجلى في دعم "النصرة" من قبل سياسيين سوريين معارضين وسياسيين عرب وحتى على المستوى الشعبي بشكل "جمعة دعم جبهة النصرة" العام 2012.
ذلك الوضع تغير سريعاً، لأن الوجه الجهادي للجولاني وتنظيمه لا يمكن أن يختفي طويلاً. وحتى اليوم مازال التنظيم يروج للشريعة الإسلامية بوصفها الأيديولوجيا الوحيدة التي يمكن بها حكم المجتمع. ومن المسلي حقاً متابعة الجولاني المرتبك وهو يرتشف الماء مرة بعد مرة أمام أنظار سميث الحادة المصوبة عليه وهو يتلقى الأسئلة المحرجة ويرد عليها كما هو متوقع من زعيم جهادي يحاول التنكر لأصله. وسميث (72 عاماً) هنا، هو صحافي وصانع أفلام وثائقية شهير حائز على العديد من الجوائز العالمية خلال السنوات الأربعين التي قضاها في العمل على إنتاج التقارير وإعدادها، وغطى العديد من الأحداث في العالم، من الثورة في أميركا الوسطى وسقوط الشيوعية في روسيا، إلى ظهور القاعدة والحروب في العراق وأفغانستان وسوريا.
يشبه الفيلم متابعة لعبة كرة الطاولة "بينغ بونغ" من طرف واحد متفوق، فيما يدرك الآخر أن مناوراته فاشلة مسبقاً. فسميث منذ اللحظات الأولى للفيلم يصرح بأن مقابلة الجولاني كانت فرصة صحافية لا يمكن تفويتها، كان شغفه للعمل الصحافي ومتابعة المجد القليل الذي توفره المهنة هو الدافع للقاء واحد من أخطر الرجال المطلوبين للولايات المتحدة، رغم اليقين المسبق بأن الجولاني يحاول فقط تقديم صورة مناسبة له للعالم. لكن محاولة استغلال سميث لا تجدي نفعاً لأنها مكشوفة، تماماً مثلما كانت محاولة نظام الأسد استغلال سميث العام 2015 مكشوفة عندما قدم الصحافي المخضرم فيلماً بعنوان"
Inside Assad's Syria" رافق خلاله جنود النظام وشخصيات بارزة فيه، كالمخرج نجدة أنزور، لإعطاء لمحة عن الفارق الشاسع بين التصريحات الرسمية الكاذبة والواقع الذي تصوره الكاميرا ويعلق عليه شخصياً، بطريقة أظهرت كمية التناقض الذي تحمله الدعاية الرسمية.
وهنا، يقدم الفيلم حيادية رائعة في توصيف الحرب السورية ومشهديتها. وهي خاصية لن تعجب كثيرين من المتابعين السوريين ربما، سواء أكانوا معارضين للنظام أم مؤيدين له. فالمعارضون سيرون أنه يصور الثورة السورية كحرب أهلية وطائفية يقوم بها جهاديون متعطشون للدماء خصوصاً أنه عرض لقطات للحياة "الطبيعية" في اللاذقية حيث الطائفة العلوية الحاكمة بوصفها العلمانية التي يزعم النظام السوري القتال من أجلها. فيما سيراه الموالون تنسيقاً بين الولايات المتحدة والحركات الجهادية التي تحركها بخيوط رفيعة من أجل تلميع "هيئة تحرير الشام" وتقديمها كحليف مستقبلي، رغم أن الفيلم لا يتبنى تلك الصيغة على الإطلاق بقدر ما يستعجب من إمكانية طرحها أصلاً.
والسؤال الأساسي هنا هو كيف يمكن الثقة في رجل مثل الجولاني؟ تماماً مثل السؤال حول إمكانية الثقة برجل كالأسد؟ وكلاهما مجرم حرب في نهاية المطاف، يستخدمان الأسلوب الدعائي نفسه القائم على ترويج صورة محبة الناس لهما من لقاء المحليين أو قيادة السيارة من دون مرافقة. وبالتالي فإن المفاضلة بين السيء والأقل سوءاً تبقى مرفوضة على المستوى الأخلاقي مثلما هي على المستوى السياسي، وحتى المروجين لفكرة التعاون الأميركي مع الهيئة الجهادية يتراجعون في سياق الفيلم عن تلك الفكرة الخلّبية ومن بينهم جايمس جيفري، المبعوث الأميركي السابق لشؤون سوريا.
والجولاني لا يظهر كرجل سياسة مثل الأسد، لكنه يشاركه الخطاب الديماغوجي اليائس، وتصبح الطريقة الوحيدة لإقناع الغرب بتقبله هي شيطنة جموع المدنيين الذين يتحكم في حياتهم ويأخذهم كرهائن، على طريقة "حماس" و"حزب الله". ويقدم الجولاني نفسه بالتالي كحارس بوابة يحمي الحضارة الغربية والدول الأوروبية من جموع اللاجئين الذين سيتدفقون عبر الحدود التركية في حال سقوطه أو في حال عدم التعاون معه. وهو الخطاب نفسه الذي يكرره نظام الأسد منذ عقود، عبر القول أنه حارس الحدود التقليدية بين الشرق الأوسط وأوروبا والذي تزايد مع بروز اليمين المتطرف في الدول الغربية.
ويصبح العنف الذي تقدمه "هيئة تحرير الشام" والذي لا تتبناه رسمياً، مثل العنف الذي يمارسه النظام السوري بحق السوريين، من دون الاعتراف بوجوده أصلاً، ضرورياً من أجل المحافظة على "الأمن" الذي يمنع بدوره ظهور أفواج من اللاجئين والمهاجرين، رغم كونه سبباً أساسياً للهروب من البلاد، في واقع الأمر. وهي معضلة لا يمكن حلها على ما يبدو، إذ لا تمتلك الإدارات الأميركية المتعاقبة أي استراتيجية واضحة بشأن سوريا سوى تجاهلها. وتبقى إدلب جزيرة محاصرة على طريقة قطاع غزة، وهو أمر لا يمانعه نظام الأسد على ما يبدو، في وقت أصبح فيه تقسيم البلاد واضحاً أكثر من أي وقت مضى، مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في مناطق سيطرة نظام الأسد فقط من دون الحديث عن بقية المناطق أصلاً.
والحال أن تحولات الجولاني الكثيرة تختصر ربما التحولات الحاصلة في سوريا التي تغيرت إلى الأبد. وبالتالي يشكل الفيلم محاولة لتصوير جزء بسيط مما يدور في البلاد من تقلبات وتناقضات سياسية وعسكرية، من وجهة نظر خارجية، عبر رحلة إعلامية سوريالية محفوفة بالمخاطر داخل إدلب. فيما تبقى
قراءة تعليقات مسؤولي النظام وإعلامييه على الفيلم مسلية فعلاً، حيث تحول الشريط الوثائقي الذي يدين رئيس النظام بقدر ما يدين الجولاني إلى انتصار جديد لأن "الغرب تعود على الفشل أمام الأسد"!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها