إنتهت الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الواحد والخمسين. بدأت الحياة تدب في أطراف غزة ومعها بدأ النازحون يعودون إلى بيوتهم المدمرة ويستصلحون ما تبقى منها. لم تفارق رائحة الرماد والبارود الهواء الذي تنفسه سكان القطاع طيلة أيام الحرب.. ومعها، لم تغادر أصوات الطائرات والإنفجارات المتتالية السماء التي لن تبارح أذهان الغزيين لفترة طويلة.
تترك الحرب أسوأ ما لديها بعد أن تنتهي في جانبها المعنوي، فهي لا تفارق الذاكرة، والصور الكثيرة للدمار والقتل وفي جانبها المادي أضحت دماراً يفوق الوصف تعمدت إسرائيل من خلاله أن تعطي غزة درساً قاسياً لكل الفلسطينيين. في خضم ذلك تستمر حياة سكان قطاع غزة، بالرغم من آلامهم، في كشف الغطاء عما خلفته آلة الدمار الإسرائيلية.
مشهد الدم لم يعد مؤثراً. يقول هايدغر في تعريفه الدقيق للصورة: "الصورة الفوتوغرافية تلغي المسافة من خلال حضورها، لكنها لا تجلب القرب". مع إزدياد وحشية العمليات العسكرية ضد قطاع غزة وتزايد أعداد الشهداء في كل دقيقة، كانت وسائل الإعلام تنقل صورة الدم بشكل واضح دون إعتبار، فيما أدت كثافة الصورة الحية والفوترغرافية لجرائم القتل وصور القتلى المتتالية إلى تقليل أهميتها وإحالتها إلى الهامش، كونها أصبحت مكررة ولا تخرج عن حيز الأرقام والأخبار العاجلة.
كثرة التداول لأخبار القصف وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها لم تختلف كثيراً. أصبحت متابعة أخبار قصف المنازل والبيوت في بداية الحرب، وباللقطات الحية، مختلفة عما كان يجري في نهايتها من مرور الخبر في شريط الأخبار العاجلة دون ذكر التفاصيل. عملية أصبحت روتينية أفرزت نتائج كارثية في لاوعي المتابع للأخبار. في الفيديو "ناس بتجري"، قام إسلام، من غزة، وهو مصور فيديو ومنتج تلفزيوني، بعملية عكسية كرد على ما يحصل من مشاهد الدم. يقول إن "الهدف الرئيسي من صناعة هذا الفيديو كان إعادة دهشة الدم.. فاستخدمت هذه المشاهد تحديداً، وكانت بالنسبة إلي أشد وقعاً من مشاهد الأشلاء".
في الصورة، إختلفت الحرب على غزة هذه المرة عن باقي الحروب التي شنتها إسرائيل قبل ذلك. إختلاف في كل الجوانب المصاحبة للقتل والتدمير من حيث الأعداد وحجم ومساحة الدمار، لكنه لا يلغي بشاعة ما كانت عليه الحروب السابقة ضد المدنيين الذين يدفعون دائماً ضريبة المعركة بصرف النظر عما تصل إليه أهدافها وطبيعتها. كما كانت بداية الحرب خاطفة أدت إلى إنزلاق كبير في نوعية العمليات العسكرية وتدحرجها حتى وصلت إلى قصف أبراج سكنية ضخمة في آخر يوم لها. رافق الجانب الإعلامي الحرب في توثيقها لحظة بلحظة، فكان التنقل من مشهد دمار إلى دمار آخر هو العنوان البارز والأكبر في التغطية.
على الجانب الآخر إنتقلت الحرب الإعلامية بين فصائل المقاومة وإسرائيل إلى مستوى جديد. فقد نجحت الفصائل الفلسطينية في التأثير وفرض مساحتها على الجبهة الداخلية في غزة ورفع المعنويات والتأثير في المقابل على الداخل الإسرائيلي. قامت كتائب القسام بتصوير عملية خاصة عن طريق الأنفاق وإقتحام موقع ناحل عوز العسكري، ناقلة بذلك، للمرة الأولى، صورة حية عما يجري على الأرض بإعتبار عمليات المقاومة "صندوقاً أسود لا يخرج عن طور البيانات الرسمية". فكسرت بذلك الفيديو أسطورة التكنولوجيا الإسرائيلية العسكرية.
في ذلك اليوم قامت القناة العاشرة الإسرائيلية بعرض العملية، وكان المذيع الإسرائيلي يقول: نحن نعتذر عن عرض الفيديو مرة أخرى لأنه مؤلم جداً. فقامت الرقابة بمنع عرضه مرة أخرى. كما كان الناطق الإعلامي لحركة حماس، أبو عبيدة، الوجه الأبرز لهذه الحرب، وكانت بياناته العسكرية بمثابة إعلان موقف سياسي وعسكري واضح يفوق المستوى السياسي لقادة حركة حماس. وأثبت قوته عندما أعلن تحديه الواضح والصريح لكل الترسانة العسكرية الإسرائيلية بأن صواريخ المقاومة لن تعترضها القبة الحديدية وستسقط في تل أبيب بشكل مباشر على الهواء. تحدٍ أسقط معه وسائل الإعلام الإسرائيلية في فخ واضح أمام صورة من كانوا يهربون إلى الملاجئ أمام الكاميرا.
في زحمة القصف الإسرائيلي للمنازل وإرتفاع أعداد الشهداء واحداً تلو الآخر، بدأت الذاكرة تفقد إدراكها لكل ما يحدث، حيث إختلف الحال عما كان عليه في بداية الحرب. فالمشاهد الذي تلقى مقاطع الفيديو لقصف بيت وإنهياره كقطعة بسكويت في بداية الحرب، كانت الصدمة لا تفارق وجهه. لكن الوقت كان كفيلاً بتحويل هذه الحقيقة الواضحة وركامها إلى خبر يتم تجاوزه في النهاية ليصبح حصيلة أرقام الإستهداف المتواصل لكل شيء، حتى وصل الأمر إلى تدمير أبراج سكنية كاملة دون أدنى إعتبار، فكانت المحصلة تدمير ثلاثة أبراج ضخمة وانتهت الحرب على ذلك.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث