تحب أمي السفر والقراءة عن العلاقات الدولية والنقاشات السياسة.
عندما فكرت بهدية خاصة لعيد الأم، كرحلة أو كمجموعة كتب، لفتني أني لم أجد في مكاتب السفر أو في المكتبات، حسومات خاصة في عيد الأم. الحسومات فقط في متاجر الأدوات المنزلية والكهربائيات وعلى مساحيق التجميل والمجوهرات.
أمي إمرأة صلبة. هي ككثيرات من أمهات أصدقائي وصديقاتي، كانت تعبر فوق جثثٍ وبين الأشلاء يومياً لتصل إلى عملها وهي حامل. في طريقها إلى العمل كل يوم، كان أشداء ميليشيات الحرب يرمقونها بنظرات الوعيد كلمّا مرت على أحد حواجزهم.
كانت حزبية وناشطة جداً ولطالما عبّر كثيرون من محيط أبي عن رفضهم لوجودها في المنطقة وفي العائلة. لكنها كانت هناك، هي التي نجت من أكثر من محاولة "تصفية" على أيدي اشخاصٍ تعرفهم جيداً. صخرة أمي وليست ملاكاً.
كانت كل ذلك قبل أن تصبح أمي. هي لا تختزل حياتها بوجودي وبما فعلته لأجل بناتها الثلاث. وقد حرصت على أن تنقل لي هذه العبرة: الأمومة لا تلغي كيانك كإمرأة وكطاقة مجتمعية فاعلة. الأمهات ينشطن، يقرأن، يناضلن أيضاً".. كانت تقول دوماً.
لوهلة يبدو ما قالته خياليا. كل يوم يمر تبدو فيه حريات المرأة وتقديماتها إلى تضاؤل.
المجتمع والإعلام والإعلان يكرسونها أكثر فأكثر ككائن "مطبخي" يفجر كل طاقاته هناك. أما الجملة التي باتت "فولكلورية" التي تقول أنها تهز المهد بيمينها والعالم بيسارها.. فليست إلا شعاراً مدرسياً يُحفظ وسرعان ما يُنسى. كيف تهز المرأة العالم بيسراها وهي تُمنع من رؤية أولادها بعد سن معين إن طلّقت؟ كيف تحكم العالم بيسراها وهي بالكاد قادرة على وقف نزيف يومي سببه زوج عنيف ومجتمع صامت وعائلة خائفة من العيب؟ كيف ستتقدم، ستنتج، ستناضل إن كانت مليارات الدولارات تُنفق على حمالات إعلانية تكرس تضحية الأم في سبيل أولادها، كفعل حتمي لا يكتمل إلا في حال محت كيانها وتحولت من كائن يتعب، يغضب، يمل.. إلى ملاك يحتمل كل شيء.. كل شيء.
الأم اليوم ليست سوى متلقية لماكينات الهوفر والخلاطات الكهربائية ومستهلكة لفناجين القهوة وطناجر التيفال.. وليست سوى عنصر أساس في أغان تمجد العنف والسلطة والتضحية وهي تدعي أنها تغني للحب.
الأم، إن لم تسكت عن عنف وخيانة وإهانة لتبقى إلى جانب أطفالها وتستر عائلة، لا تعود أمّاً حقيقية. ولا تستحق أن تفرش الجنة تحت قدميها. إن لم "تتلاشى" في سعادة وتحضن أولادها وزوجها تقديراً لهديتهم المتمثلة في ماكينة لصنع الحلويات، فلا بد أنها أساءت فهم الأمومة. الطهو هو ما سيسعد أولادها. أما أمانها وسعادتها فمؤجلة.
هناك آلة دعائية تتحول مجتمعية تعمل على إقناعنا بأن أمهاتنا يعشن فعلاً في جنة...غير أن الجنة تلك من دون حقوق، فليس للأم عندنا اي حق. نقنع أنفسنا أنهن، الأمهات، لا يعانين ظلماً. إذ أن أمومتهن مجدت كل شيء.. وطالما أنهن أمهات، فلا ضرورة للمطالبة بحقوقهن.. ذلك ملف يُفتح في عيد المرأة. أما في عيد الأم، فمرحباً بالحياة الزهرية.
لا داعي لأن نأتي على ذكر العنف في عيد الأم، ولا يهم أن أمهات مُتن داخل البيت الأسري لأن المشرعين أصروا على أن تجريم العنف المنزلي ليس سوى إختراع غربي من شأنه تفكيك الأسرة اللبنانية. لا يهم أن عشرات النساء يحرمن من فرص عمل أو يصرفن من وظائفهن أو يتقاضين رواتب أقل من الرجل، لأنهن نساء أو أمهات أو مشاريع أمهات.
لا داعي لكل هذا النكد اليوم. فلنواصل احتفالنا بأمهاتنا الملائكة اللواتي يُجدن بخبز الحلويات ويستمتعن به. ولنكتفِ بالأغاني والصورة ذات الخلفيات الزهرية والإطارات اللماعة ونغمرهن بالأدوات المنزلية، فليس في حياتهن غير أولادهن والورود.