المشهد الإعلامي الممجوج في لبنان لم يعد يخفى على أحد، وكأن وسائل الاعلام المحلية تحيا من قلة الموت. المسلسلات التركية التي لا تنتهي، والمسلسلات المحلية التي لا تمت للواقع بصِلة. البرامج السياسية معلّبة، المحاور والضيوف والمواضيع، قوقعة من خارج الزمن تشبه ما آلت إليه حال البلاد.
الانهيار في المشهد الإعلامي ليس حكراً على لبنان، فهو ينسحب، إلى هذا الحد أو ذاك، على معظم الإعلام العربي والعالمي، وباتت الاصطفافات السياسية جزءاً من هذا الإعلام الذي قيل يوماً إنه سلطة رابعة تستطيع أن تنهض ببلاد أو تطيح أنظمة. الموضوعية تحتاج إلى إعادة تعريف في الإعلام اللبناني والعربي، وبعض العالمي. المهنِية باتت أصعب من أن تُعرّف في زمن تحكمه صورة وتغيب عنه صُور. تغييب الأخبار وتعليبها جزء من اللعبة السياسية العامة من الصحافة المكتوبة، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تقتنص انتباه المشاهد وتشده إليها، عوضاً عن الوقوع في براثن النصوص الطويلة وساعات المشاهدة الأطول.
العمل في المؤسسات الإعلامية أقرب إلى الانتماء لطائفة محددة، لا يمكن للإعلامي خلع رداء محطته الإعلامية بسهولة، فيجد نفسه مضطراً لتحمل الانتقادات للمحطة وأحياناً الاستبسال في الدفاع عنها، فهي مصدر عيشه. تنظر إلى مذيع ما يقرأ مقدمة نشرة الأخبار التي كتبها رئيس تحرير ما، يحاول بكل قواه الجسدية وتعابير وجهه إذا نجت من البوتوكس، أن يوصل الفكرة المكتوبة أمامه، أن يتبناها بكل جوارحه، فيأخذ دور الممثل إذ يتقمص الدور الذي تريده منه هذه المحطة، قبل أن ينتقل إلى محطة أخرى في الضفة الأخرى، فيقوم بالدور نفسه لصالح الرأي الآخر. تتابع مذيعة ما، تخوض غمار النقاش في قضية مع ضيفها، تحاوره وتناوره وتحاول ان تخفي تأففها في ظلال الفيلير الذي يمنعها من تحريك شفاهها بالقدر الكافي.
الإعلام مرآة بلاده. من هنا تبدو صورة الاعلام اللبناني قاتمة بقتامة مستقبل البلد، صورة جميلة واستوديوهات مشعة، تماماً كصورة لبنان من علٍ، سهر وسياحة في ظل اضمحلال حقيقي لمقومات العيش. السلطة الرابعة في لبنان قاضٍ يوزع شهادات في الوطنية ويفرز الخونة، ويوزع براءات الذمم، تارة على المصارف وناهبي أموال الشعب والسلطة الفاسدة، وطوراً على زعماء الأحزاب والطوائف وخاطفي قرارات البلد.
نحن الصحافيين والإعلاميين جزء من اللعبة، عن وعي أو غير وعي، تلحقنا تبعات المؤسسة التي نعمل بها، نحاول أن نختار الوسيلة الإعلامية الأقرب إلى أفكارنا ومواقفنا السياسية، ننجح حيناً ونفشل أحياناً. فالإعلام المستقل للإعلامي، هو الصديق الوهمي الذي يرافق الأطفال في سنوات عمرهم الأولى، ومع مرور الوقت يتلاشى الصديق الوهمي ويبقى الواقع الذي يفرض بثقله على مَن يحيها.
في الأسابيع الأخيرة، اخترقت المشهد الإعلامي في لبنان حرب ضروس، بين كوكبَي "أم.تي.في" و"الجديد"، وهما محطاتان رائدتان لكل منها جمهور غفير يكاد لا يتقاطع، إذ يصعب تخيل متابع شغوف بشاشة "أم.تي.في" ويتابع "الجديد"، أو العكس. من بعد التراشق في نشرات الأخبار، بين ميشال المر وآل خياط، كشفت "إم.تي.في" أن امبراطورية آل الخياط تمددت لتصبح جزءاً من مد اللبنانيين بالكهرباء أو حجبها عنهم، فلم تجد "الجديد" من جديد في مواجهة الملف المفتوح، إلاّ ملفات ميشال المر في التخابر غير الشرعي.
فُتِحت "الردّة" على وسعها، وتحولت الفواصل الإعلانية في الشاشتين، مساحات محجوزة للمعارك والقصف المتبادل، وصولاً إلى رفع ميشال المر دعوى قضائية على آل الخياط بتهمة "ضلوعهم في الفساد في ملف الكهرباء". الهواء المفتوح على مصراعيه بين الشاشتين يفتح جراح المشاهد الذي لن يفكر مرتين قبل ربط بين أرباب السلطة الرابعة في لبنان والسلطات الفاسدة. بلا أدنى شك، هناك من حرّك الملفين، وهناك من موّل ودفع أو على الأقل هناك مَنْ امتعض من الحصة الممنوحة له، أو رفض تقاسم الغنيمة من هنا أو هناك بين زعيمَي الإعلام المتناحرَيْن، وإلاّ لما كان لعامة الشعب أن يتنبهوا لتسلل آل الخياط إلى مغارة كهرباء لبنان، وتسلل ميشال المر إلى مغارة الاتصالات.
لم نرهم وهم يتمرغون في أحضان السلطة الفاسدة ويتقاسمون المغانم، وإنما رأيناهم يختلفون على القِسمة.. وهم الذين لطالما صدّروا شعارات العفّة والمحاسبة والانتصار لضحايا الظلم والفساد. لَو أن إحدى الشاشتين وضعت بعضاً من زخم الحرب هذه، في مواجهة السلطة الحاكمة، أو في وجه مَن نهب أموال الناس في الدولة وفي المصارف، لكان هناك أمل في البلد. إعلام البلاط والفساد سيبقى انتقائياً، سيفتح ملفاً وتغيب عنه ملفات. لذلك، في معركة انقضاض أطراف السلطة الرابعة على بعضهم البعض، نجلس على مقاعد المتفرجين لنهتف للعب الحلو!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها