الأيّام كفيلة بتغيير ما تعوّدت عليه، وهل حقّاً أريد التغيير؟
من قال إنّي أرغب في ذلك، لا، أظنّ أنّي وقعت في فخ العادة... وعلام أعتاد؟
على انقطاع الكهرباء، على التّدخين، على تناول وجبة طعام واحدة تضامناً مع الفقراء، على الازدحام غير المبرر ومصادفة الناس جميعاً في الطرق، على الجو الحار صيفاً طويلاً وانتظار حلول فصل شتاء بارد نسبياً؟ على إضراب الموظفين الدائمين والمياومين في كل القطاعات العامة والخاصة، على دفع الفواتير متعدّدة الأشكال والأوصاف نهاية كل شهر أو بدايته، لا فرق؟ تلك الفواتير التّي لا تعلن إضراباً! على النفايات المكدّسة في الشوارع، على عدم التسوق، على سفر الأحبة، على رؤية الموت طيلة النهار وطوال الليل من خلال شاشة صغيرة لم تعد تتّسع لهذا العدد الهائل من الموتى من كل الأعمار؟ حتّى الموت سمعته يصرخ: كفى، لن أستطيع الاعتياد على دفن الأطفال وأمّهاتهم وأخوتهم وأخواتهم!
تعايشت مع الحنين والشوق للأحبة المغتربين في بلاد الله الواسعة، والذين لا يفلحون في اتخاذ
قرار العودة. اعتدتُ التّوتر والقلق إلى أن يحين موعد عودة التّيار الكهربائي. مللتُ الأحساس بالأسى والحزن فيما أنتظر الراتب التقاعدي الشهري. قرّرتُ عدم الخروج من المنزل وقت الازدحام. اعتدتُ إغلاق أنفي وفمي حتى لا تتسلّل الى جوفي الروائح الكريهة المنبعثة من تكدس النفايات، على وعلى وعلى... اللائحة تطول ولا تنتهي، لكني لم ولن أعتاد فكرة أنّ الطّفل لا يكبر.
جملة سمعتها من طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، ولد في غزة ويعيش فيها حتى الآن. وما أدراه بتوقف الزمن وانتهاء حياته قبل بلوغه مرحلة المراهقة؟ كلمات ذلك الطّفل، نزلت كصخرة على رأسي من دون أن تتسبب بجرح خارجي ينزف دماً أحمر يماثل دماء البشر جميعاً. كلمات ذلك الطّفل ساهمت في تحصين حفرة في قلبي لم أستطع ردمها منذ بدأت أميّز جيداً بين الحقّ والباطل، بين الكذب والصّدق، ولم يعد ينفع معها تناول دواء مساعد على تهدئة ضربات القلب المتسارعة، وعدم القدرة على التنفس، وألم المعدة كلما رأيت مجزرة حرب تُرتكب عن سابق تصوّر وتصميم في حقّ مدنيين أبرياء، أو عائلات شطبت بكامل أفرادها من سجلّات النفوس الموّثقة تحت الأنقاض.. هل بإمكاني اعتياد هذه المشاهد والكلمات؟
كيف أعتاد تأكُّد طفل من عدد سنوات حياته القليلة؟
كيف أعتاد تأكُّد طفل من موت يحيطه من كل الجهات ومن السماء ومن الأرض؟
كيف أعتاد توصّل طفل الى قناعة موته المحتّم، مع علمه بأنّه سليم الجسم وغير مصاب بمرض خطير؟
كيف أعتاد ما ترسخ في عقل طفل من هذه الطريقة العبثية في الحياة وفي الوجود؟
كيف يأكل ويشرب ويذهب الى المدرسة ويعود الى البيت، وهو متأكد أنّ الموت قريب منه؟
كيف أعتاد أفكاراً متعلّقة بأسلوب عيشه اليومي غير المضمون، غده وبعد غده؟
كيف وكيف وكيف؟ لا إجابات مقنِعة سوى أنّه، وفي أقرب وقت، سيحلّق في السّماء لاحقاً أخيه وابن عمه وابنة خاله وأخته وأبيه وجدّه ووو... سيلتقي بهم، لا شكّ يراوده في اللقاء القريب، ما عدا جدّه الذي لا يستطيع التّحليق.
كيف يكون طفل متأكداً إلى هذا الحدّ من أنّه لن يكبر، هو وأقرانه؟
***
"نحن أطفال غزة لا نكبر... لذلك لا أستطيع الإجابة على سؤالك، إذهبي بعيداً عن حدود الحيّ الذي أعرف سكّانه كلهم، أقاربي وأهلي، إذهبي بعيداً عن الشارع الذي أسير فيه وأنا مغمض العينين في ذهابي وايابي اليومي من دون أن تتعثّر قدماي، واطرحي السؤال على غيري: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ واذا أجبتك بإعجابي الشديد بابن خالتي الطبيب، وحلمي بأن أصبح مثله، أرتدي مريولي الأبيض وأتنقل بين غرف المرضى أحاول مداواتهم، هل تستطيعين مساعدتي؟ وكيف؟
هل ضمانة بقائي حيّاً في يدك؟ هل تملكين وسائل ضغط مختلفة، غير ما أعرفه وأسمع عنه، من أجل متابعة حياتي كما يُجمع الكلّ على تقسيمها: الطفولة، المراهقة، البلوغ، وأخيراً الكهولة، قبل انتهاء دوري في هذه الدّنيا ومواراتي في ثرى وطني؟
هل تذكرين لي وسيلة واحدة أستطيع من خلالها الاطمئنان على تمكّني من دخول كليّة الطب في إحدى جامعات بلدي وأنا مقيم في بيت أهلي الكائن في الطابق العلوي من بيت جدي؟ وإذا نجحت في هذا الأمر، هل تضمنين متابعتي دراسة الطّب بسنواتها المقرّرة بلا فيتو من أحد؟
لن أبالغ في أحلامي، أملك خياراً آخر، سأتنازل عن دراسة الطّب وأدخل كلية التجارة، هل تقدرين على مساعدتي؟
خطرت لي أيضاً كلية الإعلام، ومن يضمن لي، كمراسل، قيامي بتغطية الدّمار والدّم:
هل أستطيع توثيق هطول الدم بدلاً من المطر؟
هل أستطيع تصوير الأشلاء على الاشجار بدلاً من الثّمار؟
هل أستطيع بثّ الرّوح في لعب الأطفال المتناثرة بين ركام المنازل المهدّمة؟
لا شك أنّك معتادة على طرح هذا السؤال، كاعتيادك على الإجابة من أفواه أطفال يحلمون بالطّب والهندسة والتّجارة والجيش وووو... لكنّ أطفال غزة لا يكبرون، لقد وقعوا في فخّ العادة".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها