ما القاسم المشترك بين رلى يعقوب، منال العاصي وكريستال ابو شقرا؟
لا تقتصر الإجابة على الموت نتيجة العنف الزوجي فحسب. كل من النساء الثلاث تركت وراءها أطفالاً هم اليوم إمّا بعهدة والدهم – قاتل والدتهم - أو على تواصل دوري مع عائلته، اذا كان لا يزال موقوفاً كما حال زوج منال، محمد النحيلي.
لمنال بنتان. كبيرتهما في سن الرابعة عشر. لكريستال صبي في الخامسة، ولرلى خمس بنات تتراوح اعمارهن بين الثالثة عشر والسنة، كن كلهّن موجودات مع والدتهن في بيتهن في حلبا يوم ماتت. قاضي التحقيق في الشمال الاء الخطيب، اصدر قراراً بداية العام الجاري، بمنع المحاكمة عن الزوج كرم البازي في قضية التسببّ بموتها، "لعدم كفاية الدليل"، وذلك برغم افادات مفصّلة من جيرانٍ شهدوا على تعرّض رلى لعنف جسدي ونفسي حتى قبل لحظات من وفاتها. شملت بعض هذه الإفادات روايات عن بنات رلى التي اسرّت احداهن الى احد الشهود ان "البابا ضرب الماما"، فيما تروي افادة اخرى انه بعد نقل جثة رلى الى المستشفى، عاد الوالد واختلى ببناته في الغرفة لدقائق ثم رحل. شاهدة أخرى ذهبت أبعد لتنقل عن الإبنة البكر غلاديس (13 عاماً) ما أوعزه لها ولإخوتها والدهن حين إختلى بهن. تفيد الشاهدة انها سألت غلاديس عمّا حصل، فبكت واخبرتها ان والدها ضرب والدتها وضربها بـ"الشفاطة"، ثم هددها بالقتل اذا اخبرت احداً. لا يتّوقف انغماس الفتيات بالجريمة التي شهدنها هنا ولا عند رسم الإبنة الرابعة، غرايسي (5 اعوام) لإختيها غلاديس وغابرييلا (11 عاماً) الى جانب والدتهن الممددة على الأرض ووالدهن ممسكاً بعصا. فقد دُعيت غلاديس وغابرييلا للإدلاء بشهادتيهما امام المحققين بحضور عمتهن. لذا وبطبيعة الحال، عدا عن إعترافاتهن الخجولة بعنف والدهن وضربه لوالدتهن احياناً، أعطت الفتاتان شهادتين متطابقتين تقريباً ومشابهتين لإفادة والدهن، برّأتاه فيها من قتل والدتهن ونفتا تعرض والدتهن للضرب يوم وفاتها. ومنذ صدور القرار بمنع محاكمته في كانون الثاني الماضي، وهن في عهدته.
ابنتا منال لم تشهدا على جريمة قتل والدهن لوالدتهن الا انهما كانتا لا بد حاضرتين في احدى تلك "المرات المتباعدة"، التي كان والدهما يضرب فيها والدتهما، بحسب إعترافه الذي ورد في متن القرار الظني الذي حُكم عليه فيه بالإعدام. ابن كريستال الذي لم يتعد الخامسة، لم يشهد عنف والده روي الحايك على والدته قبل انفصالهما السنة الماضية، وانتقالها للعيش مع اهلها، لكن الولد اليوم في عهدة عائلة والده الذي أخلي سبيله برغم إصرار عائلة كريستال على التسبب بموتها.
شهود على العنف
ما المشترك بين هؤلاء الأطفال؟ كلهّم شهود على عنف، ومنهم من شهد على جريمة قتل وهم اليوم "قنابل موقوتة"، على حد تعبير الخبيرة في مجال حماية الأطفال وعدالة الأحداث والمديرة السابقة لمصلحة حماية الأحداث في جبل لبنان، رلى لبّس. تشير لبّس إلى انه في حالات العنف الأسري، غالباً ما يتهمشّ الأطفال. اذ يُصب الإهتمام على الأم ويُعتقد ان الأذى لا يطالهم او يطالهم بدرجة اخف، على اعتبار ان والدهم لا يضربهم.
"الطفل الشاهد على العنف الأسري يتعرض لعنفٍ قاسٍ جداً، يتعنّف معنوياً بشكل يؤدي حتماً الى كبتٍ نفسي، يصعب على الطفل التعبيرعن نفسه بعده. في هذه الحالات، الطفل لا يبدي مؤشرات العنف الجسدي او الجنسي، لكنه يرى العنف، يستوعبه، يمتصه ويعتاده يوماً بعد يوم ما يمكن ان يؤدي به الى حالة مستمّرة من القلق والتوّتر والإكتئاب"، تشرح لبّس. تتحدث عن حالة هذا الطفل: "أمامنا طفل، بوعيٍ ونمو غير مكتملين، اتت شهادته على العنف لتحرق كل مراحل نمّوه، وقد ينتقل الى الرشد بإرتكاب جريمة. لا يمكن ان نتوقع كيف سينتهي أمره، ممكن ان يقتل معنِّفه، أو يرتكب جرائم أخرى أو يتزوّج ويعُنف زوجته حتى الموت". أمّا في حالة الأطفال الإناث، فقد ينتج عن العنف الذي يشاهدنه، "استيلاد لحالات العنف في المستقبل، فيبحثن، دون قصد أو وعي، عن شريك يعنّفهن، يشبه والدهن في ما يسمّى "دعوة المُعنّف" وسيقبلن بالعنف ويعتدنه وتعلو تدريجياً قدرة إستيعابهن له".
لذا، حتى ينمو هؤلاء الأطفال بشكل صحّي، تشدد لبّس على انه يجب اولاً "ان يُبعدوا عن كل الأجواء التي تذّكرهم بالعنف الذي شهدوه لفترة طويلة جداً، يجب ان ينقطع فيها عن رؤية المعّنف تماماً لكسر الرابط معه". وهنا دور قضاء الأحداث ومصلحة حماية الأحداث المناط بها تأسيس ملفات حماية لهؤلاء القٌصر لدى محكمة حماية الأحداث والضغط بإتجاه قرارين قضائيين: الأول، ابعاد الأحداث عن المكان الذي تعرضوا فيه للعنف واي شخص اشترك او تواجد لحظة وقوع العنف، والثاني إلزام الحدث بالمعالجة "النفسية الجذرية المطولة" المُتابعة بتقارير دورية تقدّم للقاضي عن تطور حالته.
القانون غير فعّال
يحمي قانون "حماية الأحداث المخالفين للقانون او المعرّضين للخطر" - 422، في المادة 25 منه اي طفل (بين الـ0 الى 18 عاماً) موجود على الأراضي اللبنانية بغض النظر عن جنسيته او جنسه، يتعرض الى اي نوع من العنف: نفسي، معنوي، جسدي، جنسي، او متواجد في بيئة تعرّض تطوره أو نموّه للخطر. وقد اناطت المادة ذاتها مسؤولية حماية "الطفل المعرّض للخطر" بالقاضي المنفرد الجزائي، موّسعة صلاحيته لتحديد مصلحة الطفل وتقدير التدابير الحمائية الملائمة له من كل ما يشكل خطراً عليه". حتى ان المادة 27 من القانون تجيز تعليق سلطة الأهل وإبعاد الأحداث عن البيت الأسري وإحالة المعنّف الى النيابة العامة.
وهنا، نقطة مشتركة أخرى بين أطفال النساء الثلاث. لم يستفد أي من أطفال النساء الثلاث من القانون الذي يفترض ان يحميهم من الأذى المعنوي على الأقل. ولم يتحرك قضاء الأحداث لإصدار اي قرار حمائي يوصي بإبعادهم عن المعّنف في حالة بنات رلى مثلاً او يلزم بتلقيهم علاجاً. في حالة بنات رلى، لم يتوقف الأمر عند عدم إستفادتهن من القانون، بل تعدّاه الى خرق فاضح لأهم بنوده الذي ينص على حصر حضور التحقيق مع القاصر المعّنَف بالمُحقق والإخصائي/ة الإجتماعي/ة، ومندوب مكتب حماية الأحداث المكّلف من النيابة العامة والقضاء اللبناني، ومنع أي طرف ثالث من الحضور، لا سيما من عائلة القاصر وإلا إعتُبر التحقيق منحازاً. في التحقيق مع ابنتي رلى، حضرت العمّة، شقيقة الوالد.
تفيد لبّس انه غالباً ما يتمّ ابعاد الطفل عن المعّنف، لكن لا يُصار الى إلزامه بالعلاج لعدم توافر الإمكانات من جهة، ولأن المحكمة لا تُلزم بالعلاج، من جهة أخرى. ومع ان وزارة العدل تعاقدت منذ سنوات مع مركز للعلاج النفسي يقدم جلسات بأسعار مقبولة للجميع ولا تعالج الا أطفالا مع ملفات حماية، الّا ان قرارات الحماية تقف عند الإبعاد ولا تكمل نحو الإلزام بالعلاج، بحسب لبّس. لكن يبقى اسوأ الإحتمالات الممكنة للحدث، ليس الّا يٌعالج، بل ان يُترك في عهدة المعُنف كما في حالة بنات رلى وإبن كريستال.
نستطيع ان نتأكد منذ اليوم ان مراهقة هؤلاء الأولاد ستكون مضطربة، واذا كانوا نموهم طبيعياً اليوم، قبيل بلوغهم مرحلة المراهقة، فحين يبلغونها، ستنبت برؤوسهم مئات الأسئلة، وسيطالبون بإجابات لن تنتج غير ردود فعل عنيفة جداً.