"أحد النازحين المسنّين بكى من شدّة البرد في المنزل". هذه الصورة تختصر معاناة نازحين تمكّنوا من إيجاد منزل يأويهم عوض الذهاب إلى مراكز الإيواء. لكن سقف المنزل مَنَعَ وصول المساعدات الإغاثية إليهم، في ظل خيار التركيز على دعم مراكز الإيواء أولاً. علماً أن خيارات السكن لم تكن متاحة بسهولة للنازحين الهاربين سريعاً من القصف الإسرائيلي للجنوب، بعد تصعيد الاعتداءات في أيلول الماضي. فمنهم مَن سارع نحو المدارس الرسمية وبعض مراكز الجمعيات الخاصة التي تحوَّلَت إلى مراكز إيواء في المناطق الآمنة بدءاً من مدينة صيدا ومحيطها، وصعوداً نحو الشمال، ومنهم مَن سمحت لهم إمكاناتهم المادية باستئجار منزل. وبين هاتين الحالتين، أسر من الأكثر فقراً، وجدت منازل قدَّمها أصحابها مجاناً، أو سكنوا مع مَن استأجَرَ منزلاً.
وبمعزل عن خيارات السكن التي وجدها النازحون، فهم يحتاجون جميعاً لمساعدات إغاثية. لكن أغلب المساعدات التي تأتي إلى لبنان تتوجَّه نحو مراكز الإيواء، ليبقى نازحو المنازل يعانون بصمتٍ، بانتظار الحلّ الذي لا يزال يُبحَث كـ"مرحلة ثانية" بعد إتمام المرحلة الأولى التي تشمل تأمين المساعدات للمراكز، لاسيّما المتعلّقة بمواجهة فصل الشتاء.
استنزاف متواصل
كلّما طال أمد الحرب، زاد استنزاف المدّخرات التي يملكها حيدر، النازح من إحدى قرى منطقة صور إلى بلدة دير القمر في منطقة الشوف. إذ يدفع حيدر نحو 1000 دولار شهرياً موزَّعة بين أجرة المنزل وخدمات الماء واشتراك الكهرباء من الموّلد الخاص. ما يزيد الوضع سوءاً، هو التفكير بالكلفة الإضافية التي سيدفعها مع اشتداد البرد وهطول الأمطار والعواصف، خصوصاً في الفترة الممتدة بين كانون الأوّل وشباط المقبلين. فبلدة دير القمر ترتفع عن سطح البحر بين 750 و800 متر، ما يجعل شتاءها بارداً جداً مقارنة بالشتاء الذي اعتاد عليه في قريته الجنوبية التي لا يزيد ارتفاعها عن 250 متراً.
يقول حيدر في حديث لـ"المدن" أن التكاليف المدفوعة حالياً وتلك المرتقبة للشتاء "تدفع من المدّخرات التي تتناقص في ظل عدم وجود أي مردود مالي". وعن المساعدات الإغاثية، يؤكّد حيدر أنه "لم نرَ شيئاً منها حتى الآن".
مبادرات فردية
الاتجاه شمالاً نحو منطقة الضنية، يبيِّن جانباً إضافياً من أزمة النازحين في المنازل. فتؤكِّد الناشطة الاجتماعية أسمى عبيد أن "وضع الكثير من النازحين في المنازل كارثي". وتشير في حديث لـ"المدن"، إلى أنها بادرت مع مجموعة من الشبّان والشابات لتنظيم حملة لجمع التبرّعات المادية والعينية وتخصيصها للنازحين في المنازل "الذين لا يتلقّون مساعدات من أي جهة رسمية. علماً أنه في أغلب المنازل في المنطقة هناك أكثر من عائلة نازحة في المنزل الواحد. كما هناك عائلات نازحة تسكن مجاناً في بيوت قدّمها لهم أبناء المنطقة، وهؤلاء غير قادرين على تأمين مستلزمات النازحين أيضاً".
تتزايد الحاجة لمساعدات النازحين في المنازل مع دخول مرحلة الشتاء. ولأن المساعدات غائبة "نقوم بجمع التبرّعات لشراء حرامات وثياب شتوية. وبدأنا بتأمين الثياب للأطفال، ونتحضَّر حالياً لشراء سترات شتوية لكبار السنّ". وتلفت عبيد النظر إلى أن "البلديات لا تساعد هذه الفئة من النازحين، فضلاً عن وجود عشوائية في توزيع المساعدات الغذائية حتى بمراكز الإيواء، ما يحرم النازحين هناك من المساعدة، ويحجبها بالتالي عن النازحين في البيوت".
وتستغرب عبيد غياب الدعم الرسمي وخطط الدولة لمواجهة هذه الأزمة، خصوصاً في المناطق المرتفعة كثيراً عن سطح البحر، فمنطقة الضنية مثلاً "ترتفع بين 800 إلى 1000 متر عن سطح البحر، ما يجعل شتاءها بارداً جداً بالنسبة للنازحين. وتزيد الأزمة في ظل البيوت الفارغة وغير المجهَّزة بوسائل التدفئة". وللدلالة على حجم الأزمة، تقول عبيد "واجهنا منذ أيام حالة رجل مُسِن نازح من منطقة ساحلية في الجنوب، بكى أمامنا من شدّة البرد، مؤكّداً عدم قدرته على الاحتمال. فاضطررنا على عجل لتأمين سجّاد ومدفأة على الغاز للمنزل الذي يسكن فيه. علماً أن البرد الفعليّ والعواصف لم تبدأ بعد، ونحنا كمجموعة متطوّعين لا نملك الإمكانيات الكافية لتأمين كل الاحتياجات".
الموارد شحيحة
النازحون في المنازل لا يزالون خارج الخريطة الرسمية لتوزيع المساعدات الإغاثية، إلاّ فيما نَدَر. إذ يعتمد وصول المساعدات إليهم على جهد الجمعيات الخاصة وبعض البلديات. علماً أن "أكثرية النازحين هم في البيوت"، وفق ما يؤكِّده رئيس لجنة الطوارئ الوزارية، وزير البيئة ناصر ياسين، الذي يوضح في حديث لـ"المدن" أن هناك "نحو 200 ألف عائلة نازحة، يتوزّعون بين نحو 150 ألف عائلة في المنازل ونحو 50 ألف عائلة في مراكز الإيواء". ويلفت ياسين النظر إلى أنه "عندما يقول النازحون في المنازل أن المساعدات الإغاثية لم تصلهم، فهذا صحيح، لأن التركيز خلال الشهر الماضي كان على مراكز الإيواء التي تضمّ عادةً العائلات الأفقر".
لكن مع وصول الكثير من المساعدات الإغاثية وإقرار سلف مالية لوزارة الطاقة لتأمين الكهرباء والفيول للتدفئة في المراكز، بات بالإمكان، بحسب ياسين، توجيه المساعدات نحو النازحين في المنازل. لكن هذه العملية ليست سهلة لأن "الموارد قليلة، حتى لدى المنظمات الدولية التي تؤمِّن المساعدات. فيما التعهّدات الدولية خصوصاً التي أقرّت في مؤتمر باريس، لا تصل سريعاً. ما يجعل تأمين المساعدات للبيوت، تحدياً كبيراً، لاسيّما تأمين المساعدات الخاصة بالشتاء". ولا يخفي ياسين أنه لمواجهة هذا التحدّي "نحتاج لموازنات هائلة". وما يزيد الوضع صعوبة هو "الحاجة للمساعدات باستمرار".
العائلات الأكثر فقراً
في ظل التركيز على مراكز الإيواء، تخضع وزارة الشؤون الاجتماعية لرغبة الجهات المانحة "التي ترى بأن الأولوية لمراكز الإيواء لأن النازحين إليها أكثر حاجة، كما أن توزيع المساعدات في المراكز أسهل من التوزيع على البيوت"، وفق ما تؤكّده مصادر في الوزارة خلال حديث لـ"المدن". على أن ذلك التركيز لم يمنع الوزارة من "استمرارها بتأمين المساعدات للعائلات الأكثر فقراً المستفيدة من برنامج أمان". وتوضح المصادر أن "الكثير من العائلات الأكثر فقراً موجودة في المنازل، ما يزيد الضغط على النازحين. فالعائلات الأكثر فقراً إما حصلت على المنازل مجاناً، وإما تعيش ما مَن استطاع استئجار منزل، وبالتالي الحاجة للمساعدات لا تزال قائمة".
وتزيد الصعوبات التي تواجهها الوزارة في ظل "عدم القدرة على إحصاء العائلات الأكثر فقراً، ومعرفة أين يتوزّعون. لكننا نعرف معاناتهم من خلال المشاهدات والأخبار التي ينقلها موظّفو الوزارة. وبهدف المساعدة، ستبدأ الوزارة قريباً بحملة تطال البيوت لتسجيل الأسر الأكثر فقراً، وتحديد أماكنهم وحاجاتهم لتخصيص مساعدات لهم، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا يستفيدون من مساعدات برنامج أمان أم لا". وتلفت المصادر النظر إلى أن "بعض الأسر الأكثر فقراً حصلت على مساعدات إغاثية، ومنها بعض البيوت في منطقة عين دارة وجبيل، وذلك من خلال مراكز الرعاية الأولية التابعة للوزارة، لكن هذه المساعدات تبقى خجولة ومرتبطة بوجود فائض عن بعض مراكز الإيواء".
إزاء هذا الواقع، تبقى مساعدة النازحين في البيوت مؤجلة بانتظار مرحلة مقبلة من المساعدات التي لا تزال حتى الساعة رهن التكهّنات لجهة الوقت والكمّيات التي قد تصل. وتتزايد المعاناة مع حاجة هؤلاء لمستلزمات مواجهة البرد والشتاء.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها