يكشف الواقع التركي تبايناً كبيراً في وجهات النظر حيال تطبيق السلطات الرسمية قرار المقاطعة التجارية لإسرائيل. فثمة من يؤكد توقف تركيا بشكل تام منذ نهاية شهر أيار الفائت عن أي تصدير أو استيراد مع إسرائيل وعدم تسجيل أي بيانات جمركية بين البلدين، في حين يؤكد آخرون بأن عمليات التبادل التجاري تتم عبر دول أخرى كطرف ثالث، بعلم وتغطية من الحكومة التركية. من هنا لا بد من طرح سؤال حول مدى جدوى قطع العلاقات التجارية بين البلدين ومدى نجاحها بممارسة ضغطاً اقتصادياً على اسرائيل؟
وقبل اتخاذ قرار قطع العلاقات التجارية كلّياً اتخذت تركيا جملة من الإجراءات الاقتصادية ضد إسرائيل منذ بدء العدوان على قطاع غزة في السابع من 7 تشرين الأول 2023، ترافقت مع حملات شعبية داعية إلى قطع التبادل التجاري مع إسرائيل، وهو ما أعلن عنه لاحقاً في شهر نيسان 2024.
ولأن العلاقات الاقتصادية بين مطلق بلدين عادة ما تأتي بمنافع للطرفين، فإن قطعها لا بد أن يلحق الضرر بالجانبين، من هنا يأتي السؤال عن حجم الأثر السلبي الذي تركه قرار المقاطعة الاقتصادي التركي والإسرائيلي. وماهية الأسواق التي استعاضت بها تركيا عن السوق الإسرائيلي.
العلاقة التجارية بالأرقام
تشكل اتفاقية التجارة الحرة، التي أبرمت عام 1996، بين تركيا وإسرائيل أساساً للعلاقات التجارية بين الجانبين. وكانت تعدّ العلاقة التجارية بين البلدين مزدهرة جداً، بحيث تحتل تركيا المركز الخامس في واردات إسرائيل بحصة 6.2 في المئة، وكان قد ارتفع مستوى التبادل بين البلدين بنحو 6 أضعاف بين العام 2002 والعام 2022.
إلا أن تلك العلاقة التجارية النشطة بين تركيا وإسرائيل تراجعت، بحسب الأرقام والتصريحات الرسمية، بشكل ملحوظ منذ السابع من شهر تشرين الأول 2023، وانخفضت بنسبة تزيد على 50 في المئة بحسب تصريحات سابقة لوزير التجارة التركي عمر بولات. لتنخفض أكثر وتنقطع بشكل تام منذ مطلع شهر نيسان الفائت. علماً ان حجم التبادلات بين تركيا وإسرائيل تبلغ نحو 9 مليارات دولار، وتشكّل النسبة الأكبر منها صادرات من تركيا إلى إسرائيل.
مؤيدون لقرار المقاطعة
أرقام التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل قد تعكس تأثيراً سلبياً على الاقتصاد التركي غير أن مراقبين أتراك يرون بأن التأثير محدود جداً، لكون اقتصاد تركيا يتمتع بشراكات تجارية واسعة ما يجعله أقل عرضة للتأثر السلبي جراء قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل.
وإذ يؤكد الباحث التركي باكير أتاجان في حديثه إلى "المدن" جدوى قرار وقف العلاقات التجارية مع إسرائيل على كافة المستويات إنسانيا ًواقتصادياً يجزم بأن ثمة خروقات لقرار مقاطعة تركيا لإسرائيل تجارياً، وذلك من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية "إذ يعمدون إلى بيع المنتجات التركية المستوردة للجانب الإسرائيلي".
ويعتبر أن التأثير الإيجابي للمقاطعة التركية يترجمها عجز إسرائيل حتى اللحظة عن إيجاد بدائل عن المستوردات التركية لاسيما بالنسبة للمواد الرئيسية كالإسمنت والحديد وغيرها. ويكشف عن أن إسرائيل تقوم بالحصول على المنتجات التركية بطرق غير مباشرة من خلال التصدير عبر خطوط تركيا اليونان، أو تركيا صربيا أو تركيا يوغسلافا. وعلى الرغم من استيراد إسرائيل بحسب أتاجان عبر خطوط مختلفة إلا أن ذلك أيضاً يكبّدها تكاليف إضافية وهو ما ينعكس سلبا ً على المستهلك الإسرائيلي في نهاية المطاف.
وإذ يؤكد أتاجان أن الاقتصاد التركي يعاني منذ بداية الحرب وقد زادت معاناته بعد قطع العلاقات التركية معه، يشير إلى أن التضخم في تركيا تفاقم وبلغ مستويات كبيرة جداً ويعود إلى أسباب عديدة منها مقاطعة تركيا. ويرى بأن ازمة التضخم لا يمكن أن تتم معالجتها في وقت قريب حتى ولو عادت العلاقات التجارية إلى سابق عهدها فإن اقتصاد إسرائيل لن يتعافى سريعاً "من هنا يمكن القول أن الضرر الذي ألحقته تركيا باقتصاد إسرائيل سيتجلى على المديين القريب والمتوسط".
ولا ينفي أتاجان تأثر الاقتصاد التركي بشكل جزئي باعتبار أن السوق الإسرائيلي كان يؤمن مردوداً كبيراً للتجار الأتراك إلا ان التجار اتجهوا إلى أسواق جديدة معظمها في أفريقيا، متوقعاً ان تزدهر الصادرات التركية إلى الاسواق الجديدة في السنوات المقبلة. ويجزم بأن تركيا قد تكبدت بعض الخسائر في الوقت الحالي إلا أنها نجحت بتسجيل موقف إنساني تجاه الفلسطينيين بالدرجة الأولى ومن المتوقع أن تحقق مكاسب في السنوات المقبلة.
منتقدون لممارسات الحكومة
المقاطعة التركية للعلاقات التجارية مع إسرائيل ليست دقيقة بل شكلية بحسب الباحث التركي إسلام أوزكان الذي أكد في حديثه إلى "المدن" بأن إسرائيل لا تزال تستورد البضائع التركية بعدة طرق خصوصاً الحديد والإسمنت وغيرها. ويؤكد أوزكان أنه بعد مرور عدة أشهر على قرار تركيا بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، تشير التقارير إلى أن هذا الإجراء لم يؤثر قطعاً على الاقتصاد الإسرائيلي بسبب ممارسة معايير مزدوجة من قبل الحكومة التركية.
ووفقًا لتصريحات وزير التجارة التركي عمر بولات، فإن إسرائيل واجهت صعوبات اقتصادية عقب القرار التركي، بما في ذلك زيادة التضخم وصعوبة في تأمين السلع بسرعة، ويأسف أوزكان لكون هذه التصريحات لا تمثل الحقيقة. ويقول "أن الاحتجاجات انطلق مؤخراً في تركيا ضد التعامل مع الشركة التي تنقل الذخيرة إلى الجيش الإسرائيلي للمطالبة بحظرها لكنها لا تزال تعمل تحت حماية الدولة".
وكان المئات من المواطنين الأتراك قد تظاهروا منذ أيام ضد رسو السفن الإسرائيلية في الموانئ التركية خصوصا في ميناء أمبرلي في اسطنبول غير أن الشرطة التركية تعاملت مع الأمر بشكل قاس، على حد تعبير أوزكان، كاشفاً عن رسالة (اطلعت عليها المدن) توجهت فيها الحكومة التركية إلى الموانئ التي ترسو فيها سفن وحاويات شركة زيم ZIM وصدرت تعليمات بـ"زيادة الإجراءات الأمنية ضد الاحتجاجات.
وبحسب البيانات الرسمية فإنه من المرتقب أن يتم تحميل إحدى الحاويات على متن السفينة ZIM Pacific التي ستبحر من ميناء مرسين إلى ميناء أشدود وميناء حيفا، بتاريخ 19 تشرين الثاني الحالي.
ويقول أوزكان إنه على الرغم من أن التجارة بين تركيا وإسرائيل قد توقفت رسميًا على ما يبدو، إلا أنها مستمرة بشكل غير رسمي وبتشجيع من الحكومة من خلال دول ثالثة. والواقع أن التجار الإسرائيليين قد عقدوا اتفاقات مع بعض التجار الفلسطينيين ويواصلون الشحن إلى الصهاينة من خلال شركات مختلفة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها