في السياق عينه، انصبَّ اهتمام القوى السياسية على الإنتفاع من مؤسسات الدولة، عبر التوظيف السياسي لعناصر الميليشيات المنحلّة، فيما عمل الحريري على بناء المؤسسات التعليمية، وعلى تقديم المنح الدراسية في لبنان والخارج، لآلاف الخرّيجين الجامعيين. وحصل ذلك تحت مظلة سعودية سورية. إذ ان تلك المرحلة اتّسمت بالوئام السياسي بين المملكة السعودية والدولة السورية، التي كانت بمثابة الدولة المنتَدَبة على لبنان، حتى ان رئيس مجلس النواب نبيه بري اختصر تلك المرحلة بشعار "سين – سين" أي "سعودية – سوريا"، لأن مفتاح الحل في كافة الملفات يومها، كان الاتفاق بين هاتين الدولتين. ورغم أن الحريري كان من حصّة الجانب السعودي، إلاّ انه كان الممثل الاقتصادي الأبرز لذلك التوافق.
الحريري وسوليدير
ارتكزت الرؤية الاقتصادية للحريري على ضمان فتح الطريق باستمرار أمام إمبراطورية الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت (سوليدير). فالشركة كانت رأس الحربة، التي استعملها الحريري لمقارعة كافة العقبات، التي قد تظهر في وجه مشروعه. ووسط بيروت مَثَّل بالنسبة للحريري عمق المشروع، فمن دون الوسط، لا يوجد مشروع اقتصادي، ولا يوجد مغريات أمام أصحاب الرساميل.
وعليه، تراجع اهتمام الحكومات التي ترأّسها الحريري بقرى ومناطق الأطراف. ولا يحمل الحريري وحده وزر ذلك الخلل، لأن سياسات حكوماته كانت من ضمن سياسة "ترويكا" الحكم بعد الطائف، والمتمثّل بحفظ مصالح الرئاسات الثلاث. لكن بما أن الحريري هو من كان يحمل البُعد الاقتصادي في الحكم، طالته الحصة الأكبر من الإنتقادات.
وبناء امبراطورية سوليدير، استدعى شراء العقارات والأبنية في وسط بيروت من مالكيها بشتى الوسائل، منها الترغيبية والترهيبية، بعد تخفيض قيمة المتر المربع، لتعود القيمة إلى الارتفاع بعد إنجاز نقل الملكيات إلى أصحاب الرساميل اللبنانيين والأجانب، الذين اشتروا أسهماً في الشركة، وباتوا مالكين في وسط العاصمة. واللافت ان تلك العملية اقترنت بتسهيلات قانونية للأجانب، تمكّنهم من التملّك من دون قيود تذكر. فتحوّل وسط بيروت من مكان يقصده كل اللبنانيين، حين كان سوقاً مفتوحاً قبل الحرب، إلى مركز للمال والأعمال غيَّر بالكامل مفهوم وسط المدينة. وإن كان لهذا التحوّل إيجابيات بالنسبة لتهافت رؤوس الأموال نحو العاصمة، إلاّ أنّه أفرغها من محتواها الجامع، وساهم في مراكمة الديون على خزينة الدولة، لأن إعمار الوسط كان بفعل تشجيع الاستدانة الداخلية والخارجية.
تأزّم المشروع وغياب البديل
لم يكن رفيق الحريري رجل ميليشيا عسكرية، ليهدد خصومه بسلاحه، أو ليشد عصب جمهوره ضد الخصوم. لكن ذلك لم يمنعه من خلق سلاح اقتصادي جديد، يتلاءم مع مقتضيات مرحلة السلم الأهلي، وهو سلاح التنفيعات المالية، التي لم يقف أمامها أي حاجز سياسي أو قانوني. فعَرَف الحريري أن المال هو دواءٌ فعّال لداء التعفّف الذي كانت تدّعيه القوى السياسية، وترفعه كمطلب حقّ يُراد به المال. ودواء الحريري لم يشفِ أحزاب الداخل فقط، بل حلّ أزمات التعفّف والضمير، الذي كان يصحو فجأة عند كبار الضباط السوريين، الذين تناوبوا على حكم لبنان قبل العام 2005.
تغيّرت قواعد اللعبة السياسية، التي كانت تحفظ للبنان أمنه السياسي والاقتصادي والعسكري. تأزّمت العلاقة بين أميركا وسوريا وبين السعودية وسوريا. اغتيل الحريري، خرج الجيش السوري من لبنان، انكشفت الساحة اللبنانية فجأة أمام غياب ضوابط جديدة. وكل ذلك حدث من دون إيجاد بديل سياسي اقتصادي للحريري، ومن دون تحديد رؤية اقتصادية تُدار البلاد بواسطتها. فأدّى الغياب إلى ضعضعة المشروع الاقتصادي للحريري، وتهافت القوى السياسية، لمحاولة الإستفادة من تركة مشروع الحريري، من خلال إعادة توزيع الحصص داخل النظام، خصوصاً وان الحريري لم يترك خَلَفاً ليدير مشروعه وفق الرؤية عينها. فالهيئات الاقتصادية التي تمثّل نظرياً مشروع الحريري، تعيش اليوم على خيرات المشروع من دون أن تمتلك الآلية الصحيحة لتطويره، من وجهة نظر الحريرية الاقتصادية، وليس بالضرورة من وجهة نظر اقتصادية علمية صحيحة، ذلك ان السياسات التي انتهجتها السلطة، بوجود الحريري، أدّت إلى غرق الخزينة العامة بدين فاق 80 مليار دولار، وإلى إفراغ مؤسسات الدولة من قوّتها الإنتاجية، بهدف إفلاسها تمهيداً لخصخصتها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها