تحاول السلطات المصرية استعادة مئات الملايين من الدولارات من العراق، كفاتورة متأخرة منذ نحو ثلاثة عقود، تعويضاً عن أجور العمالة المصرية فيه. ومقابل الفاتورة الباهظة، يُغلَق ملف "النعوش الطائرة"، الذي بات واحداً من أعقد الملفات بين القاهرة وبغداد، بما يشبه "الأزمة الصامتة" والمديدة بين البلدين.
اعتمدت بغداد، إبان الحرب العراقية – الإيرانية، على العمال المصريين لسد فجوة اليد العاملة في القطاعين الحكومي والخاص. وخلال أعوام الحرب الثمانية، تدفق ما يقرب من ثلاثة ملايين مصري إلى العراق.
طيلة سنوات الحرب، تمتع المصريون بامتيازات "المواطن" من دون تمييز. فجأة، وبدءاً من العام 1989، بات المصريون غير مرحبٍ بهم، في بلد مثقل بالديون وتفشي البطالة وتناقص الموارد وانهيار أسعار النفط.. ما أَشهر السكاكين الطويلة ضدهم. وبدل أن يُرسل العمال المصريون االتحويلات النقدية إلى عائلاتهم، كانت الرحلات بين القاهرة وبغداد، عبارة عن جسر جوي من "النعوش الطائرة"، بلغت المئات. لكن مبارك، الرئيس الأسبق، في تصريح شهير، قال أنها "بلغت ثمانية آلاف نعش"، حين برر مشاركته الحرب مع التحالف الدولي لـ"تحرير الكويت"، العام 1991.
القتل والصمت
في البداية، لم تشأ القاهرة استثارة نظام صدام حسين، بالمطالبة بمستحقات المصريين أو إثارة الضجة حول ظاهرة "النعوش الطائرة"، وفضّلت الاحتواء عبر العلاقة "المتينة" حينها بين صدام ومبارك. العاملون المصريون وصفوا سفارة بلادهم ببغداد "أبوابها مغلقة دائماً"، وطالبوا بعزل السفير (آنذاك) ابراهيم عوف، زاعمين انه "يقدم بيانات مضللة بينما يدوي الرصاص على رؤوس المصريين والمطاوي تطعنهم في ظهورهم".
ازدياد حوادث العنف والقتل، وتحولها إلى ظاهرة شبه يومية ضد المصريين، جعل من الصمت ثقيلاً ومن دون معنى. فأوعزت الدولة لجريدة "الأهرام" لكشف وقائع الموت الغامض للمصريين في العراق في 15 تشرين الثاني 1989. وكخطوة لا يتحمل نظام مبارك تبعاتها، أفردت جريدة الوفد -المعارضة آنذاك- تحقيقات مفصلة، تبعتها مجلة المصور بسلسلة أكثر تفصيلاً.
أعلنت بغداد بداية العام 1989، عن منع تحويل العمالة الأجنبية لمدخراتها إلى الخارج، ومن ضمنهم العمالة الأكبر (المصريون)، حفاظاً على احتياطات العملة الاجنبية المتناقصة، إثر توقف الدعم الخليجي للعراق، عقب انتهاء الحرب الإيرانية، وعودة نحو مليوني مجند ومتطوع إلى الحياة المدنية، التي باتت مشلولة اقتصادياً. سُمح حينها فقط لكل عامل مصري بتحويل من 10 - 40 ديناراً شهرياً (33 - 132 دولاراً).
طيلة الأشهر التي سبقت "الجمعة الدامية"، كان فورة العنف تتنامى ضد المصريين، المتمتعين بالوظائف العامة كما في أعمال القطاع الخاص، وسط عجز الحكومة العراقية عن تسريحهم أو إجبارهم على مغادرة العراق، بسبب قوانين "السياسة القومية"، التي اتبعها النظام البعثي، ونظراً لـ"مجهودات المصريين خلال الحرب". لكنها أطلقت سلسلة إجراءات لمسايرة واحتواء مناخ الكراهية ضدهم. فخفضت معاشاتهم بنحو 60 في المئة، مع زيادة ساعات العمل. فأعلن الشغيلة المصريون اضرابات في البلاد، أشهرها إضراب 280 عاملاً منهم في"معمل إطارات الديوانية".
في 22 آب 1989، خفضت بغداد الحوالات إلى النصف (نحو 360 دولاراً سنوياً) لتمنعها كلياً، لاحقاً. طيلة سنوات الحرب الأولى كان الشغيل المصري يرسل 1200 دولار سنوياً، وبدءاً من 1987 باتت 840 دولاراً.
مع بدء 1989 ابتدعت بغداد والقاهرة جسراً جوياً لإعادة المصريين. وفي ليلة واحدة أقلت 20 رحلة نحو ستة آلاف مصري غداة "الجمعة الدامية"، فيما كان معدل الرحلات من 9 – 14 رحلة يومياً حتى أوائل صيف العام 1990.
احتجزت الحكومة العراقية مدخرات الشغيلة المصريين، واطلقت سلسلة اجراءات لـ"تطفيشهم". فيما صبّ الشُبّان العراقيون، العائدين للتو من الجبهات محطمين ومن دون وظائف، غضبهم الصامت ضد السلطة على رؤوس المصريين، بوصفهم ضيوفها الثِقال. حاول صدّام لملمة "القضية" بلقاء ممثلي الشغيلة المصريين في 15 تشرين الثاني 1989 عقب سريان أخبار "المذابح"، وأنه "قرر الاستماع من المصريين مباشرة، ليتأكد بنفسه من صحة ما تقوله الصحف".
المذبحة
اندلعت في 18 تشرين الثاني 1989، في بغداد، أحداث "الجمعة الدامية"، حين احتفل المصريون بتأهل مصر إلى مونديال كأس العالم. تجمع ألوف المصريين في منطقة "المربّعة" قرب شارع الرشيد، وسط بغداد، للاحتفال. ووفقاً لرواية الصحافة المصرية فإن "عراقيين أطلقوا النار عشوائياً على المصريين، فقتل سبعة منهم وجرح 120 آخرين، واعتقلت السلطات العشرات منهم". وفي حادث آخر "اقتحم عراقي بسيارته الجموع فقتل مصرياً وجرح آخرين". اندلعت شجارات عنيفة بين العراقيين والمصريين في "المربعة" ومناطق أخرى من العاصمة. أنزلت السلطات القوى الأمنية لوقف "المذبحة".
كانت تلك هي الشرارة التي أشعلت القتل العشوائي، وعمليات طرد المصريين، الذين فضلوا ترك مستحقاتهم والهرب إلى بلادهم.
برر صدّام حسين فورة القتل والمشاجرات مع المصريين بأن "الإنسان العراقي بات يستخدم يديه في العراك أكثر مما يستخدم لسانه، بسبب امتداد الحرب لسنوات عديدة، وهذا العنف أحد الآثار المتخلفة عنها".
خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 1989، قالت مصادر المصرية لـ"رويترز" أن 1350 جثة شغيل مصري أعيدت من بغداد، قتلوا بحوادث غامضة سجلت ضد "مجهول"، وفي تشرين الأول 1990 كشفت جريدة الأهرام عن تقرير "سيادي" قُدم لمبارك آنذاك، أن 995 جثة لعمال مصريين، وصلت إلى مصر خلال الشهور التسع من ذلك العام، بمعدل 100 جثة شهرياً، بأعمار تترواح بين 19 و 44 عاماً.
اطلقت بغداد والقاهرة برنامجاً "ناعماً" لحث المصريين على العودة إلى بلادهم طوعاً. وفجأة بات تلفزيون بغداد الرسمي يكثف من بث الأغاني "المصرية" المطالبة للشُبّان المصريين بالعودة، حتى باتت أغنية "سلامات.. سلامات" لنادية مصطفى أيقونة المرحلة المصرية في العراق. فيما وثّقت السينما المصرية على نحو عابر أحداث "تطفيش" المصريين من العراق في فيلم "أميركا شيكا بيكا" العام 1993.
الحوالات الصفراء
مع منع التحويلات المالية، كان العامل المصري في العراق آنذاك، يستلم إيصالاً أصفر اللون كمقاصة عن مبالغ مستحقة الدفع له أو كأذن بالتحويل، والتي باتت تعرف فيما بعد بـ"الحوالات الصفراء" التي أطفأ العراق أغلبها في العام 2012 وبلغ عددها 637 ألف حوالة بقيمة 462 مليون دولار. فيما ظل ملف "الحقوق التقاعدية" مفتوحاً بمروحة حلول بين التسديد نفطاً أو بايداعات عراقية مباشرة في البنوك المصرية، وتبلغ نحو 600 مليون دولار بات العراق يسددها الآن شهرياً.
يبلغ عدد المشمولين بالحقوق التقاعدية العراقية من المصريين نحو 1400 موظف عملوا بدءاً من العام 1980 وحتى العام 1990، مازالت ملفاتهم قيد التدقيق، إلا أن نحو 650 موظفاً مصرياً، في القطاعين العام والخاص، منحوا مستحقاتهم إثر تفعيل الملف مجدداً، بدءاً من العام 2018، من قبل هيئة التقاعد الوطنية العراقية، التي شددت على أن "مستحقات المصريين المتقاعدين في العراق لا تعد إرثا (...) لكنها من حق الأرملة والأطفال القُصّر فقط".
تحاول القاهرة إغلاق ملف العمالة القديم الغارق بـ"النعوش"، عبر فتح صفحة عمالة جديدة ضمن خطتها الاستثمارية بزج نحو 1.5 مليون شغيل مصري، بدءاً من العام المنقضي 2018، وعلى مدى الأعوام المقبلة. وتؤكد شعبة إلحاق العمالة في الخارج في غرفة تجارة القاهرة أن "عدد العاملين المصريين في العراق حالياً بين 100 ألف إلى 150 ألف عامل".
يحدث هذا، بينما يعاني العراق من أزمة اقتصادية خانقة، مع تنامي البطالة في عموم البلاد إلى 40 في المئة، وازدياد عدد الذين يعيشون عند خط الفقر. ويشهد العراق أيضاً انفجاراً سكانياً غير مسبوق، مع تنامي تسلط قوى العسكرة وضعف "الحكومة". فهل سنشهد "نعوشاً طائرة" مصرية مجدداً؟!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها