لكن الاستفادة المحليّة، ستؤمّن بالمحصّلة، استفادة استراتيجية روسية، عبّر عنها نائب رئيس الشركة الروسية ديديي كازنيرو، بقوله أن الاستثمار في منشآت طرابلس هو "مشروع استراتيجي بالنسبة إلى الشركة، يوسع نشاطها ويعطيها الفرصة لاستثمار أوسع في لبنان والدول المجاورة".
ويصبح هذا القول أوضح، مع تسليط الضوء على أن مصفاة النفط في طرابلس تم إنشاؤها في العام 1940 لتكرير النفط الخام الآتي إلى لبنان من كركوك – العراق، عبر سوريا (المصفاة متوقفة إلى اليوم عن استقبال النفط العراقي). ومع توسّع النفوذ الروسي في المنطقة، وبخاصة في سوريا، أصبحت مصفاة طرابلس ضمن الدائرة الاستراتيجية للاستفادة الروسية من نفط وغاز المنطقة. وترتفع أهمية الاستثمار الروسي في لبنان، مع وجود شركة نوفا تك الروسية، من ضمن ائتلاف شركات توتال - إني - نوفا تك، الذي فاز في مناقصة تلزيم الرقعتين النفطيتين رقم 4 و9.
احترام القوانين
المصلحة الاستراتيجية الروسية هي مصلحة تبحث عنها كل دولة. والسعي الروسي للاستثمار في لبنان، لا غبار عليه، مهما كانت طبيعة عقود الاستثمار وآليات تلزيم العقود، سواء كانت مخالفة للقوانين أم لا، ذلك أن مراعاة قانونية التلزيم هو من إختصاص الجانب اللبناني الذي يفترض بأنه حريص على المؤسسات العامة وأموال الدولة. وبالتأكيد، لن يكون المستثمِر الأجنبي حريصاً على تطبيق القوانين المحلية، على حساب مصلحته الخاصة، طالما أن أهل البلاد لا يُبالون بقوانينهم. وفي سياق المصلحة الروسية، على اللبنانيين معرفة مصلحتهم من هذا العقد.
المصلحة اللبنانية تبدأ أولاً من احترام القوانين، ووضوح مضمون العقود المبرمة. وهو ما لم يراعَ في صفقة منشآت طرابلس. فمن ناحية الشكل، روّج أبي خليل للعقد على أنه "عقد تطوير منشآت تخزين النفط في طرابلس"، أي أنه أطلق "صفة" قد تكون نتيجة للاستثمار وقد لا تكون كذلك. أي أن الوزير زرع في أذهان اللبنانيين نتيجة حتمية للعقد، ويقول لهم حكماً، بأن التعاقد يعني تطوير المنشآت، وعدم التعاقد يعني عدم تطويرها، فيخال المواطن أن التدقيق في طبيعة التعاقد، هو تشكيك بنيّة تطوير المنشآت، وتطوير منطقة طرابلس. في حين أن المضمون هو عقد "تشغيل وخدمة من أجل تأجير سعة تخزينية"، وهذا العنوان يستدعي التدقيق في تفاصيل العقد والجهة المخوّلة إبرامه قانونياً.
ثغرات العقد
عقد التشغيل ينص على أن تستأجر الشركة الروسية سعات تخزينية من المنشآت، لمدة 20 عاماً، وتبني فيها "في المرحلة الأولى، 14 خزاناً بسعة 428 ألف طن، وتعادل مصروف لبنان من المشتقات النفطية لمدة شهرين، وهذه المرحلة ستحتاج إلى 18 شهراً لإنجازها، من تاريخ توقيع العقد مع الشركة، التي ستنفذ عمليات البناء. بعد ذلك، يُفترض أن تبدأ المرحلة الثانية من العقد، والتي ستضيف 32 خزاناً بقدرة استيعابية تقدّر بمليون طن".
أولى الثغرات القانونية تبدأ من المدة الزمنية للعقد، والتي تستوجب "إصدار قانون يجيز التعاقد لهذه الفترة. فلا يجوز التعاقد لمثل هذه المدة بواسطة قرار من الوزير، أو حتى من مجلس الوزراء"، وفق ما تقوله مصادر قانونية. وعليه لا يمكن لوزير الطاقة أن يوقّع عقداً مماثلاً بصورة منفردة وبقرار منه، حتى وإن كان مجلس الوزراء قد وافق في العام 2017 على إطلاق المناقصة المتعلقة بالمشروع. علماً أن المناقصة ذاتها غير قانونية لأنها حصلت خارج إدارة المناقصات في التفتيش المركزي. فالمجلس وافق على إطلاق المناقصة وليس على التلزيم، فلهذه المرحلة تفاصيلها وأطرها القانونية. كما أن المجلس إلى اليوم، عبارة عن حكومة تصريف أعمال، لا يجوز لها البت بمشروع ضخم كهذا، لأن صلاحياتها في ظل تصريف الأعمال، حسب الدستور، تنحصر في "المعنى الضيّق لتصريف الأعمال، أي بالأعمال التي فيها نفقات دائمة وتقتضي المصلحة العامة استمرارها، كالرواتب والأجور أو شراء أدوية مثلاً، في حين أن إنشاء أو توسيع منشآة عامة، هو مشروع يمكن تأجيله لحين تشكيل حكومة جديدة، ولا يرتّب تأجيله أي خسارة على الدولة"، حسب المصادر التي تلفت النظرإلى "وجود اجتهاد قانوني يجيز التعاقد في حالة حكومة تصريف الأعمال، إذا كانت المشاريع تخدم استمرارية المرفق العام، لكن شرط تأمين موافقة رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الأعمال". وهذه الموافقة لم تؤمّن.
أيضاً، لم يوضح أبي خليل ما إذا كان هناك فترة زمنية محددة لبدء المرحلة الأولى من المشروع، إذ أن هذه المرحلة تبدأ "من تاريخ توقيع العقد مع الشركة التي ستنفذ عمليات البناء"، وتمتد من حينها، إلى 18 شهراً. فهل شركة روسنفت هي التي ستبني، وبالتالي مهلة 18 شهراً قد بدأت من تاريخ توقيع العقد معها؟ أم أنها ستتعاقد هي مع شركة أخرى للبناء؟ أم أن لبنان سيتولّى التعاقد، وحينها تنتظر الشركة الروسية الإشارة اللبنانية لإطلاق عدّادها الزمني الممتدإلى 20 عاماً؟ وفي هذه الحالة، هل مدة التعاقد مع الشركة الروسية لم يبدأ احتسابها من تاريخ التوقيع؟ هذه التفاصيل غير الواضحة، تعني حكماً غموض تنفيذ المرحلة الثانية، وتعني فتح مجال التكهنات حول تمديد العقد أو تجديده، بشروط يتكفّل المستقبل في كشفها.
كما أن التعاقد حول مشروع مماثل مع شركة أجنبية، ولمدة زمنية طويلة، يطرح تساؤلات حول شكل هذا التعاقد، هل هو نوع من أنواع الخصخصة، أو هو نوع من أنواع الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام؟ وبالتالي، يستوجب مرور الملف بالمجلس الأعلى للخصخصة، وهو ما لم يحصل. أم هل هو عقد بين دولتين، بما أن الحكومة الروسية تملك النسبة الأكبر من الحصص في الشركة الروسية؟ وهذا الأمر يستوجب أطراً قانونية لتنفيذ التعاقد، أوسع بكثير من توقيع وزير الطاقة.
العُرف اللبناني
لا يُلام الجانب الروسي إن كان العُرف اللبناني يجيز اختصار الأطر القانونية، برغبة وزير أو حزب أو طائفة. بل يُلام اللبناني على تجاهله خرق القوانين من قِبل زعمائه وأحزابه، متذرعاً بأن المشاريع الآتية، تصب في مصلحة المنطقة أو الطائفة. وكأن المصلحة الضيّقة تعلو فوق المصلحة العامة. علماً ان مصلحة طرابلس تحديداً، ليست في قاموس السياسيين. ومنشآت النفط في المدينة تحتاج إلى تطوير ملحوظ منذ العام 2005 على الأقل، في تقرير صادر عن منشآت النفط هناك، وموقّع من المدير العام المعاون معن حامدي، وينص التقرير على أن مصفاة طرابلس "تنتج مشتقات نفطية لا يمكن اعتمادها في الأسواق اللبنانية، فالبنزين المنتج يتم رفع الأوكتان فيه بواسطة رباعي أوكسيد الرصاص، وهذا لا ينطبق مع البنزين المسموح استعماله في لبنان (خال من الرصاص). لهذا، فإن استحداث مصفاة جديدة بطاقة 150 الف برميل يومياً، أصبح مطلباً رئيسياً، خصوصاً وأن مساحة المنشآت تسمح بتشييد هذه المصفاة". ورغم ذلك لم يتحرك المعنيون. فهل برزت الحاجة للتطوير فجأة، ولم يعد بالمقدور انتظار تشكيل حكومة تبحث التطوير بشكل أعمق؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها