الإثنين 2015/05/11

آخر تحديث: 17:18 (بيروت)

وادي خالد "ضائع" بين لبنان وسوريا

الإثنين 2015/05/11
increase حجم الخط decrease


عرف المجتمع اللبناني منطقة "وادي خالد" عن كثب، عندما إحتلت المشهد الإعلامي مع بدء الأزمة السورية. فتتالي الأحداث فيها، كفرار بعض المقاتلين إليها، وتعرض منازلها للقصف من الجانب السوري، ودخول آلاف النازحين السوريين عبرها، جعلها محطّ اهتمام وسائل الإعلام. إلّا أنّ تلك "العودة" لوادي خالد كمنطقة من ضمن أراضي "الجمهورية اللبنانية" جاءت منقوصة وظرفية، وفق ما تظهره زيارة لقرى المنطقة. حيث لا يزال أبناؤها ينتظرون حدوث "المعجزة" المتمثلة بإلتفات الدولة إليهم.

من حلبا إلى "الوادي"
تصدح حناجر سائقي "الفانات" العمومية، وسط ساحة حلبا، وهم ينادون: "على الوادي، على الوادي". ينتظرون للحظات حتى تمتلىء الباصات، ثم ينطلقون. تطول الرحلة من حلبا إلى "الوادي" التي تقع ضمن تجمع للقرى يسمى "الدريب الأعلى"، لساعتين من الزمن. تتمايل فيها أجساد الركاب عند كل مفرق أو"مطب" أو"خندق" على الطرق الداخلية في محافظة عكار. يعلو صوت الراديو باثاً الأغاني الشعبية والفلوكلورية، فـ"يشرد" الركاب، قبل أن يعودوا الى الواقع المأزوم، مع بلوغهم ساحة وادي خالد.

تستقبلك وادي خالد بعبارة خطت بـ"اليد" على حائط قديم. ما من لافتات أو لوحات تدّلك على قراها الـ22. يتطوع أحد السكان بلهفة للمساعدة. يشرح الرجل الستيني، صاحب أحد المحال، أنّ "في وادي خالد 22 قرية، تشكل تضاريسها الجغرافية الوادي، وهي: الهيشة، العماير، كنيسة، البقيعة، حارة بني صخر، خط البترول، كرم زبدين، جرمنايا، الرامة، رجم بيت حسين، رجم عيسى، المحطة، الكلخة، المجدل، الساعد، العامرية، رجم بيت خلف، ضهر العوادة، الفرض، والبعلية. وهي حملت اسم خالد نسبة إلى القائد العربي خالد بن الوليد". ويضيف: "مرّ خالد بن الوليد بهذه المنطقة بعد انتصاره في معركة اليرموك في الشام عام (15هـ/636 م). وتقول الرواية الشعبية إنّ جيشه عطش فضرب الصَخرة بسيفه، وفجّر "نبع الصَفاء" الذي يعتبر مصدر المياه شبه الوحيد هنا".

تندر السيارات في وادي خالد. معظم السكان يتنقلون بواسطة دراجات نارية. يرد أحد الشبان الأمر إلى أن "الضائقة المادية التي يعاني منها معظم سكان الوادي، لا تسمح لهم بإقتناء سيارات". بينما يرى آخر أنه "حرام تمشي السيارات على هيك طرقات. معظمها غير معبدة، ولا تصلح حتى للدواب".

يعتمد السكان على السبل التقليدية في تأمين إحتياجاتهم. يستعين المزارعون بشاحنات توزيع المياه لتأمين الري لمزروعاتهم صيفاً. يحفر المواطنون حُفراً مخصصة للصرف الصحي بالقرب من كل منزل، نظراً لعدم توفر شبكات صرف صحي. كما يعانون من ضعف حاد في إرسال شبكات الهواتف الخلوية اللبنانية، حيث تتعذر الإتصالات معظم الأحيان بسبب التشويش الحاصل من الجهة السورية، وفق ما يقدر أحدهم. أما شبكات "الإنترنت" فحدّث ولا حرج. وعلى الرغم من أن عدد سكان وادي خالد بلغ 54 ألف نسمة، إلا أنه لا يوجد مخفر واحد في منطقتهم، ولا قلم نفوس أو محكمة شرعية. كما لا تتوفر أي جامعة أو مهنية. وأقرب مستشفى في عكار (مستشفى السلام-القبيات) تبعد نحو 23 كيلومتراً عن "الوادي".

يعتبر رئيس بلدية "العماير" بسام خليفة، أنّ "مشوار المنطقة مع الدولة اللبنانية حديث نسبياً. لم نركب قطار الوظائف العامة والإدارية بعد، ولم نندمج في أطياف المجتمع اللبناني، وذلك يعود لبقائنا سنوات طويلة مجردين من الجنسية اللبنانية. وحتى عندما حصلنا عليها لم تكن "إعادة جنسية" بل كانت "منح جنسية". ويتابع أن "في وادي خالد نحو 4 آلاف شخص حائزين على شهادات جامعية، بينهم عدد من المتفوقين، لكنهم لم يحصلوا على فرص عمل إلا من كان "حظه يفلق الصخر". المنطقة بحاجة إلى فرص عمل ووظائف. فحتى المزارعين الذين يشكلون نحو 30% من أبناء الوادي، يتخلى قسم منهم عن عمله وأرضه نتيجة الخسارة الكبيرة في المواسم".

في الشارع الرئيسي، بعض محال الألبسة المتواضعة، استسلم أصحابها للضجر، فغفوا. على مقربة منهم شبان مجتمعون حول نراجيلهم. وفي الأفق، خضرة جميلة تكسو الهضاب في حيث يسوق عدد من الرعاة أغنامهم. لوحات طبيعية خلابة تغيب عن ناظريك عند الدخول إلى عمق القرى، حيث تلاصق البيوت لا يسمح بتمييز أسطحها. أبناء "الوادي" عالقون في دائرة مفرغة يصعب فيها تحديد علاقتهم بلبنان من جهة، وبسوريا من جهة أخرى. إذ نال أبناء وادي خالد الجنسية اللبنانية، وفق مرسوم التجنيس الصادر في العام 1994، لكن علاقاتهم الإقتصادية-الإجتماعية مع الدولة السورية بقيت أكثر متانة منها مع لبنان، إلى حين اندلاع الأحداث فيها.

قبل الأزمة السورية ليس كما بعدها
طرأت تغيرات جذرية على حياة أبناء وادي خالد بعد الثورة السورية، وفق الأستاذ المدرسي أحمد السيد، اذ كانت سوريا "الأم الحنون بالنسبة لأبناء الوادي". ويضيف: "الظلم الذي يعاني منه الوادي ليس وليد اللحظة، إنما يعود لمسار تاريخي طويل. فعند إندلاع الحرب الأهلية لم نكن قد حصلنا على الجنسية بعد، كنا نصنّف على أننا دخلاء على لبنان. ونتيجة للإجتياح الإسرائيلي للجنوب والحروب المتتالية فيه، صُرف النظر بشكل كامل عن الشمال. ومع بدء تطبيق إتفاق الطائف، وظف الإحتلال السوري كل طاقاته لمنع الدولة اللبنانية من الإقتراب من المناطق الحدودية. على الأثر، أصبح أبناء الوادي مثل من يضع رجلاً في سوريا ورجلاً في لبنان. على الخريطة الجغرافية نحن جزء من لبنان، إنما على خريطة الحياة الإقتصادية والإجتماعية بتنا جزءاً من سوريا".

ويضيف "إعتمد معظم سكان وادي خالد على التجارة البينية (التهريب) بين لبنان وسوريا. كانت الحالة الإقتصادية لمعظمهم جيدة. كانت الحدود مفتوحة على مصراعيها، وحظي أبناء الوادي بإمتيازات عديدة وتسهيلات من الجانب السوري. أنشىء حينها ما يعرف بـ"سوق البقيعة" (تم إغلاقه بعد سنوات) الذي ضاهى بأهميته أسواق التل الشعبية في طرابلس. استخدمه أبناء الوادي لعرض بضائعهم التي شملت، المواد الغذائية والتموينية، الأدوات المنزلية والصحية، الثياب والاكسيسوارات وغيرها". ويشير إلى أن "الوادي" شكل معبراً تجارياً أساسياً للبنان، لاسيما خلال عدوان تموز 2006، وحرب مخيم نهر البارد. تأمن عبره وصول البضائع والحاجيات إلى كل المناطق اللبنانية. إلا أنه مع بدء الحرب السورية، تدهورت العلاقات بين أبناء الوادي والسلطات السورية، التي تتعامل معنا وفق قواعد إنتقامية، لمجرد أن هناك من دعم الثورة".    

ويروي عدد من الشبان كيف أُغلقت الحدود والمعابر بين "الوادي" وسوريا. يقول أحدهم: "الدوريات السورية لا تنفك تحاصر القرى الحدودية والجانب الملاصق للنهر الكبير. فإن مرت سيارة على الطريق العام ليلاً تطلق النيران عليها. بات أي مواطن من الوادي بنظر السلطة السورية بمثابة مطلوب لكونه متآمراً مع الثورة ضد النظام". ويرى السيد أن "إقفال الحدود السورية بوجه أبناء "الوادي" جعلنا نشعر أكثر فأكثر ببعد الدولة اللبنانية عنا". ومع توقف التجارة مع الجانب السوري، بلغت نسبة البطالة في الوادي نحو 90%.

وتضاعف منافسة اليد العاملة السورية لليد العاملة اللبنانية، مأساة أبناء "الوادي"، حيث يشير خليفة إلى أن "وادي خالد يستضيف نحو 23 ألف نازح سوري، سعى عدد منهم إلى تأمين لقمة عيشه من دون الإتكال على المنظمات الدولية، عبر ممارسة العمل الذي يجيده. ما أدى إلى دخول أعمال وحرف جديدة على المجتمع العكاري". ويضيف السيد أن "نقص الخبرة في العمل البلدي ساهم في فقدان "الوادي" جزءا من حقوقه، مشيراً إلى أن "البلديات أُنشئت في مطلع العام 2012، والكثير منها لم يستطع حتى اليوم القيام بمشاريع إنمائية. فكل ما تم إنجازه في منطقتنا يعود بالدرجة الأولى لمساهمات المجتمع الدولي والمنظمات الأهلية، أما الدولة فهي غير حاضرة بالقدر المطلوب. فضلاً عن فساد بعض رؤساء البلديات، وغياب المتمولين والمستثمرين من أبناء الوادي عن تقديم الخدمات وإنشاء المشاريع. ومن الضروري الإشارة إلى أن وادي خالد شكلت كتلة انتخابية كبيرة أوصلت في العام 2000، نائبين من أبنائها إلى البرلمان اللبناني، هما محمد يحيى وجمال اسماعيل، إلا أن مرورهما على المجلس النيابي لم يخدم المنطقة. حالهم كحال معظم النواب في عكار".

ويجمع عدد من أبناء "الوادي" على أن "تجارة عكسية" قد تنشط في حال وقف إطلاق النار في سوريا، تساهم في تحسين الاوضاع الإقتصادية في المنطقة. وخدماتياً، يسلّم ابناء الوادي بالحاجة إلى تشكيل إتحاد بلديات "وادي خالد" الذي من شأنه القيام بكل الاعمال الإنمائية التي تحتاجها القرى، والتي تشمل تنمية القطاعات الاقتصادية والزراعية والصناعية، تطوير وتأمين مستلزمات المدارس الرسمية، تعزيز حضور المستوصفات الحكومية، بناء مستشفى حكومي نظرا للحاجة الماسة إليه، تطوير شبكات الطرق والمياه والكهرباء، وتشجيع قيام الجمعيات والنوادي الإجتماعية، الرياضية والبيئية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها