الاتجاه الغالب والأكثر وضوحاً، أنه لا حل قريباً للأزمة السورية. هناك متسع لتأجيلها، إن لم يكن لتعقيدها كي تستكمل فترة إهمالها المتعمد. تجاهلها من وقت لآخر يساعد الأطراف الفاعلة على الاستفادة منها، بحجة أن ظروف الحل لم تنضج بعد، هذا لئلا نستغرب ارتفاع أرقام آلاف الضحايا، والنزوح المستمر، وتعميم الدمار. إضافة إلى عدم تلقي دعوات الحل الاستجابة المناسبة من الدول الكبرى، ولا محاولة وضع حد للأوضاع الانسانية المتدهورة.
الأزمة السورية ليست ذاهبة إلى المجهول، إلا بالنسبة إلى السوريين الذين لم يتلمحوا بارقة أمل ولا أمان في كل ما يطرح من توقعات. ما يتداول لمجرد الكلام، بلا نوايا جدية لتحويله إلى فعل.
عادة الأزمات الكبرى لا تكون محط اهتمام الدول الكبرى إلا على نحو مترافق بأجندات خفية. من العبث الحديث عن الانسانية او الأخلاق، ثمة قاموس آخر، يُرجع إليه ويُسترشد به، وهو المصالح العليا للتحالفات والتفاهمات الدولية. وهي غالباً مضادة لمصالح الدول التي لا تعرف مصالحها الحقيقية، فيغدو تهتك نسيجها الاجتماعي وتمزقه، صالحاً لإعادة تشكيل هذه الأزمات على نحو يلائم واقع التجاذبات الدولية، فتتم التوازنات في المنطقة على حسابها. تعيش سوريا هذه الحالة الحرجة. الحل ليس في الداخل مع أن الفرقاء، كل من طرفه، يحاول انهاء الأمور لصالحه. وإذا ظلت الأوضاع على هذا الايقاع، فإنهاؤها لن يكون إلا بتوافق الخارج على محاصصات تكفل نفوذه، وخلالها سينتظر السوريون تقرير مصيرهم.
الجهود التي كانت في العام الأول للثورة واعدة ومفتوحة على احتمالات مبشرة، هي اليوم كما يجب أن تكون، متشائمة ومغلقة تماماً. من وحي هذه التركيبة، الوضع الحالي مؤاتٍ لاجتهادات نظرية في التأمل المؤامراتي بعيد المدى، طالما أدواته متوافرة على الأرض، ويجرى تحويله إلى أمر واقع، بإفلات العنان لأنواع الأسلحة كافة، تلك التي لا تستخدم إلا في حرب شاملة بين بلدين عدوين، وبقتال متعدد الرؤوس والأطراف والجبهات، كأنموذج لحرب غير مقنونة، لا يمكن التعريف الدقيق بها. مزيج من حرب لأجل الحرية والديموقراطية، وحرب ضد الإرهاب، وحرب لإسقاط النظام، وحرب دفاعية عن الدولة، وحرب هجومية ضد ثورة شعبية، وحرب مقاومة وممانعة ضد الاميركيين والاسرائيليين، وحرب دينية مذهبية، وحرب أهلية... فكيف لا تستجر هذه الحروب جميع أنواع المقاتلين في العالم، عملاء وجهاديين، مرتزقة ومجرمين، مناضلين وأفاقين، بلِحى وبلا لحى... حرب مقبلة على أن تكون حرب العالم كله ضد العالم كله، تشجع المحللين والمتخصصين في السياسات الدولية والحروب العالمية والمحلية، والجغرافيا، والتاريخ، وعلم الأديان، والمذاهب، وتاريخ النزاع السني الشيعي، ما يستدرج التبشير بصراعات تمتد جذورها إلى ما يزيد عن عشرات القرون... كل هذا الفائض أسبغ على احتجاجات عفوية ضد مظالم محلية، ساهم فيها نشطاء سلميون، وامتدت في أرجاء البلاد، لتغدو أزمة تنحو إلى أن تبدو بلا نهاية.
إذا لم يتوحد الشعب السوري ويمسك بزمام مأساته، ويتحكم بأقداره، ويصنع مصيره، فلن يكون هناك حل لهذا العنف الذي أمسى شراً مطلقاً، تقع أعباؤه على الأهالي. وهو نوع من التمنيات التي لا تجد له مكاناً على الأرض، حتى أن هذه الدعوة تبدو وكأنها تمتّ إلى عالم آخر، على علاقة بالسلام وبشيء يدعى التفاهم، أقانيم أصبحنا بعيدين عنها. الأجدى، وكل هذه الأطراف النابذة لوضع الأزمة في طريقها الصحيح، معرفة أنه غير مسموح للشعب السوري بالتوحد وفرض إرادته. في المرة الوحيدة التي حاول السوريون ان يكونوا يداً واحدة وصوتاً واحداً، كانت قبل ثلاث سنوات، فاستنفرت الدنيا كلها ضده وشككت فيه، علناً وسراً. ولم توفر وسيلة لاجهاض احتجاجاته السلمية. وكانت النتيجة: خراب سوريا.
المطلوب أمر بسيط، أن يدرك السوريون أن مصيرهم بأيديهم، وهو أمر يبدو الآن مستحيلاً. الأمر الأبسط منه، هو الاعتياد على الكارثة.