الإثنين 2024/09/16

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

إلياس خوري: دينامو بيروت

الإثنين 2024/09/16
إلياس خوري: دينامو بيروت
increase حجم الخط decrease
لستُ ضليعاً في المراثي، ولا في تذكار الصداقات والمعارف الشخصية. لكن ربّما يكون الروائي إلياس خوري، أحد أبرز مَن قرأتهم في بداياتي أو مراهقتي المتشعبة والساذجة، يوم كان بيتنا يخلو من الكتب الأدبية والشعرية ويزخر بالمجلات والمنشورات الحزبية. قرأت قصته "رائحة الصابون" في مجلة "الطريق" اليسارية. جزء من القراءة العفوية، كان نوعاً من البصبصة، كانت الكلمات تصنع الرغبة وتتفوّق على الاستعارات والحكايا. أقرأ الكلمات وأعيش في المشهد في الواقع. لم تكن قراءة، بل كانت بحثاً عن أحاسيس ضائعة أو مخنوقة وواهنة. في المقابل، قرأتُ قصة "أجمل رجل غريق في العالم" لغابرييل غارسيا ماركيز في الجريدة الحزبية، فكانت الدهشة العجائبية التي لم تصمْد طويلاً.

بعد انتقالي إلى أروقة بيروت وضواحيها، وتحوّل القراءة والكتب نوعاً من هوس يومي وحياتي، كانت أول رواية قرأتها في المدينة هي "مجمع الأسرار" لالياس خوري، عوالم حكايات متشابكة عن لبنان وتجارة المخدرات والتهريب، مشاهد متسارعة وصورة كأنها فيلم مكتوب. ثم واظبتُ على متابعة مقالاته السلسة في "ملحق النهار" كل يوم سبت(لاحقاً الأحد)، وكان إحدى الركائز الثقافية في بيروت قبل إقفاله. وقرأت رواية "يالو"، وكنت حينها قد بدأت أعرف الياس خوري من قرب وبشكل يوميّ. كنت مفتوناً بجُمله وحديثه عن المرآة والحكاية والموت والأقنعة والذاكرة...

لكن عوالم كثيرة تبدلت، ربما بسبب تبدل المزاج، كأني غادرتُ ثقافة البدايات أو أُتخمت بها، سواء قصائد نزار قباني الغرامية، أو قصة "بول وفرجيني" الرومانسية لمصطفى لطفي المنفلوطي، أو "رمل وزبد" لجبران خليل جبران التأملية، أو مقالات الياس الملتزمة. صرت أبحث عن أسماء جديدة او مختلفة، متناقضة وكابوسية. لم تكن الاختيارات الجديدة إلا موضة أو موجة أو صرعة، وانتهت بأن صارت القراءات ضبابية ومشوشة، مرتبطة بكتابة المقالات وربّما الحدث اليومي أو التريند...

وبغض النظر عن قراءاتي الأولى والبدايات، كانت لي علاقة مهنية بالياس خوري وعقل العويط وبلال خبيز، وكانت لي تجربة مع الياس في "ملحق النهار"، فيها الكثير من البرستيج والمتعة. لم تكن الكتابة عادية في ذلك الملحق أواخر التسعينيات. تجربة جيدة من الناحية المهنية، وإن لم تكن ناضجة، فطرية وصعبة وبائسة من الناحية المادية. معظم المقالات في الملحق، كان سقفها الحرية، مع بعض التوظيف السياسي، ربّما بسبب موقع الجريدة الولائي... وهي نتاج مرحلة تنبغي غعادة تأريخها أو تدوينها بطريقة منطقية محايدة غير خشبية أو  إيديولوجية كما فعل بعض غلاة اليسار الجديد.

ومن بين الأمور التي يمكن رصدها والإثناء عليها في مسيرة الياس خوري ومسيراته، قدرته على أن يكون "دينامو" الدفة، وتفعيل وتحريك مشاغل الحياة الثقافية وصناعة الرأي العام الثقافي في لبنان، سواء في "ملحق النهار" الذي واكب الأحداث المحورية من حرب العراق الأولى الى الحرب الثانية، إلى حرب أفغانسان وهجوم بن لادن على برجَي نيويورك، وموت مارون بغدادي في غرفة المصعد، وذاكرة بيروت العمرانية وقضية سجن رومية، مروراً بسجن سمير جعجع، إلى الانتخابات النيابية والبلدية، والانحياز للاسماء السورية المعارضة وربيع دمشق والقضايا اليسارية والفلسطينية...

وعدا الجانب الكتابي لالياس خوري، هناك الجانب الثقافي الإداري المتمثّل في "مسرح بيروت" في عين المريسة، ظاهرة ما بعد الطائف أو الحرب، والذي استضاف الكثير من النشاطات اللبنانية والعربية والأجنبية البارزة، من المسرح التونسي والسوري والعراقي والمصري، أو النشاطات التي تتعلّق بمواجهة الرقابة وذاكرة فلسطين والموسيقى، أو في "مسرح أيلول" مع باسكال فغالي واهتمامه بالتجارب الشبابية ما بعد الحداثية، أو علاقته بالكتّاب اللبنانيين والأجانب والسوريين والعراقيين...

استطاع الياس خوري أن يصنع حراكاً ثقافيا بيروتياً مشرقياً، سواء في مرحلة النظام الأمني اللبناني-السوري، أو في حركة 14 آذار، أو في حراك 17 تشرين. والانخراط في التجارب السياسة لم يكن قائماً على الجمود والولاء الاعمى، بل على مواقف نقدية جدلية. بقي الياس خوري دينامو الثقافة حتى الرمق الأخير وهو يعيش عام الألم، يبحث عن الأمل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها