* لا شك من أنها رواية ساخرة تدعو قارئها إلى الضحك، لكنه ضحك يشبه البكاء، ومع ذلك لم يكن جانبها الساخر غاية بحدّ ذاته، بل لم أتقصّده إطلاقا ولم أسع إليه. في البداية أردت أن أكتب عملاً يمزج بين الواقع والخيال، لأنني من الذين يؤمنون أننا نعيش في واقع كلّما تشبث بحقيقته، لامس الخيال على نحوٍ يتماهى مع الغرابة، وهو واقع يضطرنا كلّما تأملنا مأساته أن نتساءل: "مَن أوجد مَن؟" هل الشعوب المضطهدة هي التي تصنع من نصفه الزعيم والديكتاتور السخيف؟ أم أن الطاغية هو الذي يخلق الشعب المضطهد الذي يسمح له بالبقاء في السلطة؟ رغم أن هذا السؤال يبدو فلسفياً، إلا أنه بعيد كل البعد من كونه كذلك لارتباطه بأبسط تفاصيل الحياة اليومية، التي لا تشكّل في النهاية إلا الحقّ الأكثر ارتباطاً بالإنسان: الحق في الحلم. حقٌّ لا تعترف به في الأنظمة المغلقة التي تعتبر المواطنين مجرّد رعايا بسيطين لا يستطيعون ولا يحق لهم أن يحلموا إلا في حدود ما تسمح به السلطة. وفي مثل هذه الأنظمة تصبح الأحلام، رغم بساطتها، تطلعات شبه مستحيلة. وهكذا تجدنا في هكذا أوطان ننشأ على منطق سخيف، يجعلنا بدوره نعتقد أن الممكن مستحيل دائما. نحن نقضي حياتنا بين ما يمكن تحقيقه وما لا نستطيع تحقيقه، وفي هذا الفضاء يقضي معظم الناس على هذه الأرض حياتهم. لكن الفرق بينهم وبيننا هو أن المستحيل بالنسبة إلينا هو دائمًا أو في معظم الأحيان يندمج مع الممكن.
لهذا السبب نحلم فقط من أجل الحلم، بلا أي أمل في رؤية أحلامنا تتحقق على أرض الواقع. المسافة بين المستحيل والممكن التي نعيش فيها ضيقة جدًا لدرجة أنه من المستحيل العيش فيها، إنها إذا شئت تشبه العدم. وهنا لا أريد أن تعتقد وأنا أقول ذلك أن باستطاعتي النظر إلى العالم بعين رجل يفهم في السياسة، بل بالعكس تماماً، فكل ما قضيته من هذه الحياة قضيته على الهامش، ولا ينتابني شك في عدم امتلاكي القدرة على حل المشاكل، لهذا فكل ما يمكنني تقديمه هو الأسئلة وطرح ما أعتبره قضايا تستحق الطرح من خلال تجربتي الحياتية وليس فقط تجربة الآخرين. أنا أتحدث عن واقع المهمشين في وطني وفي العالم العربي عموما، لأن الحياة التي يصبح فيها السكن والزواج والعمل أحلاما يقضي الإنسان من أجلها حياته هي حياة لا طائل من ورائها. وربما لهذا السبب أصبحت روايتي قصة ساخرة، شكل من أشكال الهجاء، واشتد هجاؤها مع تقدمي في الكتابة ومع تراكم الوقائع المؤلمة والمأسوية في القصة. نحفظ جميعا أن "شرّ البلية ما يضحك" وهي مقولة أؤمن بها، لأنه كلما زادت مشاكلنا زادت غرابتها لتجعلنا نضحك بلا شك. لا أعرف من قال إن الأشخاص المعروفين بروح الدعابة والنكات هم الأكثر يأسًا، لكنني أعتقد أن هذا تصريح صحيح وحقيقي.
- هل الوصف الدَّقيق لآليَّات تدمير العقلانيَّة كمنهج، وإتلاف الموارد اللُّغويَّة لِمنعْ تشخيص الواقع من قِبل سلطات "العاصمة" العدمِيّة، هو نقد لِمظاهِر وطبائع الاستبداد؟
* اللغة هي عنصر من عناصر الهوية التي تهمني قبل كل شيء كجزائري. اللغة هي أيضًا الطريقة الأكثر فعالية للتعبير عن ثقافتي الجزائرية، وهي ثقافة متنوعة أفتخر بها، لكنها لا تجعلني مختلفًا عن الرجال الآخرين في أي مكان في العالم. أنا أكره أولئك الذين يتباهون بشكل مفرط بثقافتهم أو هويتهم، كما أكره أولئك الذين يشوهون ثقافتهم وهويتهم من خلال مقارنتها بثقافات الآخرين وهوياتهم. على سبيل المثال، أنا لا أحب جلد الذات المستمر الذي يمارسه كتاب مثل كمال داوود أو حتى بوعلام صنصال في كتاباتهم وتصريحاتهم العامة، فكتابتهم تقدمها للآخر في صورة مخادعة وبلا شك غير حقيقية، وفي كثير من الأحيان تصوّرنا لهم بلا قيمة وكشعوب في منزلة أدنى بلا تاريخ ولا أحلام ويخجل دائما من العناصر المشكلة لهويته، سيما اللغة والدين.
ومن جهتي لا أرى مشكلة في الإسلام كدين ساهم في تشكيل الهوية الجزائرية، بالرغم مما أجده من صعوبة في تقبل فكرة أو مفهوم الإسلام السياسي وعقيدة الإسلاميين بخصوص إمكانية قيام الدولة على عنصر ديني في عصرنا هذا، على عكس اللغة التي قد تكون عنصراً موحداً يسمح للمجتمعات بالتقارب أكثر فأكثر من بعضها البعض، ولا ينبغي أن يكون مصدراً للفرقة والتمايز. ومن الرائع أن أنتمي إلى شعب يتحدث لغتين، العربية والأمازيغية. والأروع من ذلك أن أجد نفسي في مجتمع قادر على التعبير عن نفسه بلغات عديدةن خصوصاً الفرنسية، التي بالمناسبة أجد من السخافة أن أعاديها كما دعا إلى ذلك البعض بحجة أنها لغة الأمة التي استعمرتنا ذات يوم، فمن الحماقة التفكير أن لغة مهما كانت قد تكون موضوع خصومة أو عداوة، بالطبع قد تستجد أسباب سياسية أو غيرها تضطرنا كشعوب أو أفراد إلى عداوة أو خصومة دول تتحدث لغة معينة، لكن من المستحيل أن نعادي لغتها.
- نرى عودة الكثير من شخصيَّات رواياتكْ السَّابقة في "انتصار الحمقى". لماذا؟
* معظم شخصيات "انتصار الحمقى" سبق أن وظفتها في روايتي "سلالم ترولار"، فالفكرة في البداية كانت أن أكتب عملاً من ثلاثة أجزاء في شكل ثلاثية بعنوان "ثلاثية العبث" تتضمن: بما سلالم ترولار، الحماقة كما لم يروها أحد بقسمها: "حماقات دوق دي كار" و"الأحمق يقرأ دائما" وللأسف لم أجد ناشراً عربياً مهتماً بهذا المشروع الذي يعتبره البعض جنوناً ومجازفة تجارية. لذلك استسلمت وقررت نشر العمل في روايتين: الأولى تحكي كيف أصبح "جمال حميدي" رئيسًا للبلاد، عندما كان مجرد بواب بسيط ضعيف التعليم، إذ تخيلت أن الجزائريين سيستيقظون يوماً في عالم غريب بلا أبواب ولا نوافذ، وأن القادة لن يجدوا حلاً سوى تعيين رئيس يعرف الأبواب. هكذا تبدأ مغامرة جمال حميدي الذي سيصبح رئيسًا في "سلالم ترولار"، ثم، في الجزء الأول من "انتصار الحمقى"، قمت بتحويل كل أحداث الرواية الأولى إلى كابوس بسيط يحلم به الرئيس الحقيقي، وفي القسم الثاني حولت كل شيء إلى كابوس. يبدو الأمر وكأنه متاهة من الأحلام والكوابيس المتلاحقة التي لا تؤدي إلى أي حقيقة محددة. أحب أن أعتقد أن هذا ما نعيشه حقاً.. رسم رغم تعقيده بسيط مقارنة بحياتنا الحقيقية التي لا خلاص منها إلا حين أن نقرر ذات يوم أن نستيقظ ونواجه الواقع.
- لديك تحفُّظ كبير اتجاه الأوساط الثَّقافيَّة الجزائِريَّة. هل يعود هذا التَّحفُّظ إلى الامتثالية العمياء لِقوالِبْ "الثَّوابت الوطنيَّة والدِّينيَّة"؟
* المشهد الثقافي في الجزائر غير مريح على الإطلاق ولا يثير أي نوع من الإبداع. هناك هيمنة غير صحية للمؤسسة الرسمية على الساحة الثقافية تحت مسمّى الرعاية، ما أدى إلى خلق مجتمع ثقافي تابع، لا غاية لأفراده إلا تحقيق مصالح مادية صرفة. بل إن هناك تراجعاً خطيراً في ما يتعلق بالدور الذي يجب أن يؤديه المثقف في خلق المناخ الثقافي الذي يسمح بالتنوع وحرية الرأي والفكر. لدرجة أننا نشهد انقراض المثقف النقدي، الذي يجب أن يوجد في كل مجتمع، لأنه يمثل دائما وجهة النظر البديلة لوجهة نظر المؤسسة الرسمية. يحضرني من باب الطرافة تصريح وزير الثقافة الأسبق الشاعر عز الدين ميهوبي حين قال إنه "مثقف السلطة" وهو يفتخر بهذا الوصف، يحضرني أيضا السخط الذي أثاره تصريحه في الوسط الثقافي وقتئذ، وهو رد فعل أظهر أنه لا يزال هناك بعض الخير في المشهد الثقافي.
لكننا للأسف نعيش اليوم واقعاً ثقافياً لا يرى إلا بعين واحدة، تلك التي اعتمدها معظم مثقفينا لضمان حضورهم على الساحة ووضع أنفسهم في طليعة الثقافة الرسمية من خلال المشاركة في الفعاليات الثقافية الممولة من المؤسسة الرسمية. كل هذا للاستفادة من بعض المزايا التي يعتقدون أنها تمنحهم صوتًا، لكنها في الواقع، من خلال تخليهم عن دورهم كمثقفين، لا تمنحهم إلا أفواهاً لا ألسِنة فيها، ليشكلوا مجتمعاً ثقافياً تملأه الأمراض النفسية التي على رأسها أوهام العظَمة والفصام. ويضاف إلى ذلك الغياب التام للإعلام الثقافي ومنصات التوعية الثقافية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها