الأحد 2024/07/28

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

جوزف عيساوي: لولا التجديف

الأحد 2024/07/28
جوزف عيساوي: لولا التجديف
increase حجم الخط decrease
لولا التجديف على المسيحيّة والمسيح ما كانت أوروبا الحديثة، والتي كان لبعض آيات يسوع كما وللكنيسة نفسها، حيث بدأ الإصلاح (البروتستانتيّ) متسبّباً بحروب طاحنة، تأثير بيِّنٌ عليها. المحاكاة الساخرة في الأولمبياد للوحة Jan Harmensz. van BIJLERT من القرن السابع عشر بعنوان "وليمة الآلهة"، والمتأثّرة بلوحة دافنتشي، المتأثر بدوره بفنّ الإغريق والرومان وأساطيرهم-دياناتهم (والتي تأثرت بها بل وتناسلت منها العقيدة المسيحيّة نفسها)، لعلها تحدٍّ من فنّان سياسيّ مثليّ (توماس جولي، المدير الفنّي لحفل الإفتتاح) لصعود اليمين المتطرّف في بلده والعالم.
المشهد نوع من الفن المعاصر لا يبحث عن "الجماليّات" بقدر ما يحمل فكرة، هي هنا السخرية من الآلهة القديمة وعودتها مع مآزق العولمة، وحروبها، وتكريس التقنية إلهاً كونيّاً، ولو انه فنٌّ قد يتعيّش بدوره ويُموَّل (كأيّ فنّ، وكما سبق للكنيسة ان فعلت كأيّ منتِج وربّ عمل) من آلهة السوق الإستهلاكيّ، ما يوجب على المصمّم المعاصر -كما وعلينا- الحيطة من كل وحش بثوب نورانيّ، مهما بلغت عطاياه وهباته، وإلا كنّا نستبدل آلهةً بأخرى، ومرجعيّات قهر بآليّات ضبط وأنماط عيش وإنتاج لا تقلّ قهراً وإن مقنّعاً او ملوّناً. اذاً هي ايديولوجيّات تتصارع، ولكلّ امرئ ان يتفاعل ويقترب او يبتعد. لكن ان يحتجّ مسلمون عربٌ على "الإساءة للمسيح"، فهؤلاء لا يدرون انه لولا ما يُسمّى في تاريخهم الثقافيّ بـ"تغليب العقل على النقل"، اي لولا الهرطقة والتجديف والكفر (حرفيّاً) بالله والمقدّس خلال النهضة الأوروبيّة وعصر الأنوار، ما كان لعشرات ملايين المسلمين أن يعيشوا في الغرب، ولا لعشرات الجوامع أن تشاد هناك، ولا أن يطالبوا بالمساواة في الحقوق والواجبات ضمن دولة "مواطَنة".

كان اعلان نيتشه "موت الله ونحن قتلناه" ردّاً على الأخلاق المسيحيّة (متسامحاً قليلاً تجاه مرحلة من اليهوديّة، والإسلام، وأقلّ ازاء البوذيّة)، وكذلك على اسراف الحداثة في عقلانيّة صارمة ادّت الى تصنيم الحياة، اي لجم الغرائز الحيويّة، داعياً الى الغبّ من فرصة "الإنقذاف الى الوجود" (بتعبير هايدغر)، وتحقيق "إرادة القوّة". لم يدعُ نيتشه الى الإلحاد بالآلهة، بل الى السعيّ نحو قممها ليولد "الإنسان السوبرمان"، وهو ليس ذاك النازيّ، ولا من بَعدُ انسان الإستهلاك اليوم المقهور بعبادة الأشياء، المصلوب على خيوط الشبكة العنكبوتيّة وبراغيثها الإفتراضيّة، ونشواتٍ بلا عدٍّ هي اقرب الى العطسات، وإفراغ الخصيتين، ونفث الريح. لا توافقني سقوف حركة ال"و.وك"، وإبدال هدف الفعل في الواقع بالتحكّم في اللغة ومصطلحاتها ازاء الأقليّات وسواها، لكن لا يسعني الا ان افهم الفنّان الفرنسي الذي صمّم مشهديّة "الوليمة"، توماس جولي، متحدّيّاً الفاشيّات الدينيّة (كافّة) والأبويّة، شارحاً: "إنها باريس حيث يتمّ تأكيد الرغبة، والتعبير عنها". على انّني ختاماً، وعلى سبيل عدم الإطالة، اسأل: وماذا بَعد الرغبة يا سيّدي؟

(*) مدونة نشرها الشاعر والاعلامي جوزف عيساوي في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها