الأحد 2024/05/05

آخر تحديث: 07:06 (بيروت)

اليوم يوم القيامة…

الأحد 2024/05/05
اليوم يوم القيامة…
increase حجم الخط decrease
يستبق الروم صيامهم «الكبير»، كما يحلو لهم أن يسمّوا الصوم الأربعينيّ الأيّام الذي يسبق الفصح، بمثل من أمثال يسوع الناصريّ لا يرد إلّا في إنجيل لوقا: كان لرجل إبنان. يقرّر الابن الأصغر أن يرث أباه قبل موته، فيطلب منه أن يعطيه حصّته من الميراث. يمتثل الوالد لرغبة الابن. ويغادر الأخير البيتَ الوالديّ إلى بلد بعيد منصرفاً إلى عيشة في الخلاعة والتبذير تفضي به إلى الفاقة. فيقرّر العودة إلى بيت أبيه. لا ينتظر الوالد، الذي شاهد الصبيّ قادماً من بعيد، وصوله إلى البيت، بل يهرع إليه ويقبّله، ويأمر خدّامه بأن يلبسوه «الحلّة الأولى»، ويذبحوا العجل المسمّن «كي نأكل ونفرح». وفيما الرقص والتعييد على أشدّهما، يصل الابن الأكبر آتياً من الحقل، ويروح يعنّف أباه على تعاطيه الإيجابيّ مع أخيه، الذي أكل معيشته «مع الزواني». يبرّر الوالد سلوكه بقوله لابنه الأكبر: «كان ينبغي أن نفرح ونسرّ، لأنّ أخاك هذا كان ميّتاً فعاش وكان ضالاًّ فوُجد». والجدير بالذكر أنّ يسوع يترك الحكاية مفتوحة، ولا ينبئ سامعيه إذا كان الإبن الأكبر دخل حلقة المعيّدين وتصالح مع أخيه أم لا. 

مسيرة الصيام، إذاً، كما فهمها الذين وضعوا الطقوسيّات، ليست مجرّد امتناع عن الطعام والشراب، بل هي، بالدرجة الأولى، احترام للحرّيّة ودعوة إلى الغفران. الأولى تظهر عبر مسارعة الوالد إلى تنفيذ مطلب ابنه الأصغر، أي إعطائه ما يحقّ له من الإرث، وعدم سعيه إلى عرقلة رغبته في الرحيل والتصرّف بالمال كما يشاء. أمّا الغفران، فيتبدّى عبر موقف الأب من ابنه الأصغر بعد رجوعه، ودعوته المبطّنة لابنه الأكبر إلى تبنّي الموقف ذاته حيال أخيه من دون الضغط عليه، ما ينمّ مرّةً أخرى عن الاحترام الذي يكنّه الوالد لحرّيّة ولديه.

اللافت أنّ هاتين الفكرتين بالذات تطالعاننا من قلب المأساة التي انتهت بموت يسوع الناصريّ على الصليب. فهو لا يسعى إلى تغيير مصيره، بل يختار الموت اللاعنفيّ محترماً حرّيّة صالبيه حتّى النهاية. ثمّ يطلب من الله أبيه، وهو مسمّر على صليب الموت، أن يغفر لهم خطيئتهم. ليس من المبالغة القول، إذاً، إنّ حكاية الأب وولديه تستبق، من حيث محمولها الإنسانيّ واللاهوتيّ، حكاية موت يسوع في تشديدها على احترام الله لحرّيّة البشر، ودعوته إيّاهم إلى أن يغفروا بعضهم لبعض ما يرتكبونه من زلّات كما يغفر هو لهم زلّاتهم. 

الغريب في الموضوع أنّ طقوسيّات الروم الآتية من المدّ البيزنطيّ لا تترك مجالاً للشكّ في أنّ هذا هو معنى الفصح أيضاً. فقيامة المسيح من بين الأموات هي دعوة للبشر لا أن يصافحوا بعضهم بعضاً فحسب، تعبيراً عن قدرة القيامة على صنع التسالم بين البشر، بل أن يتغافروا أيضاً: «اليوم يوم القيامة، فسبيلنا أن نتلألأ بالموسم، ونصافح بعضنا بعضنا (…) ونصفح لمبغضينا عن كلّ شيء في القيامة». وتعبّر اللغة العربيّة الفذّة عن الالتصاق بين المصافحة والصفح عبر اشتقاقهما من جذر واحد هو، ويا للصدفة، يتألّف من الحروف ذاتها التي نعثر عليها في لفظ «فصح». 

لكن ماذا عن فكرة الحرّيّة، وأين نعثر عليها في طقوسيّات الفصح؟ هي تكمن، أوّلاً، في أنّ الدعوة إلى الصفح ليست إلزاميّة، بل تستعيد، بمعنًى ما، موقف الوالد في حكاية إنجيل لوقا. فهو لم يملِ على ابنه الأكبر أن يصفح لأخيه الأصغر، بل اكتفى بأن يوجّه إليه دعوةً مبطّنةً قوامها أنّ الوقت الآن هو للفرح والسرور. ومن النافل القول إنّ الإبن الأكبر لا يستطيع المشاركة في الاحتفال بعودة أخيه ما لم يغفر له. إنّ ترك حكاية الإبن الأكبر مفتوحةً هو، في نهاية المطاف، تشديد على حرّيّة الإنسان الفرد، أي السامع والقارئ، وما يضطلع به من دور في المبادرة إلى الصفح. فكرة الحرّيّة هذه يتردّد صداها يوم أحد الفصح أيضاً عبر العظة المنسوبة إلى يوحنّا فم الذهب، هذا المعلّم الكنسيّ الذي عاش في القرن الرابع، والتي يسمعها كلّ من يؤمّ الكنيسة هذا اليوم: «أمسكتم أم توانيتم، أكرموا هذا النهار. صمتم أم لم تصوموا، ارقصوا اليوم. المائدة ملآنة فتمتّعوا كلّكم، العجل سمين وافٍ فلا يخرجنّ أحد جائعاً». ذكر الرقص والعجل السمين يومئ، طبعاً، إلى حكاية الراوية لوقا التي قوامها الحرّيّة. ومن ثمّ، البشر الذين سمعوا، عند مستهلّ مسيرة الصوم، الدعوة إلى الغفران، أحرار في أن يصوموا أو لا يصوموا. المهمّ أنّ الفرح بقيامة المسيح، في هذا النهار الفريد، يغمر كلّ شيء، ويبتلع كلّ شيء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها