السبت 2024/04/27

آخر تحديث: 11:32 (بيروت)

بينالي فينيسيا: إسرائيل تحتج ضد نفسها

السبت 2024/04/27
بينالي فينيسيا: إسرائيل تحتج ضد نفسها
الجناح الإسرائيلي في بينالي البندقية 2024 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يعد زئيف ريختر واحداً من الآباء الثلاثة المؤسسين للعمارة الإسرائيلية. وصل الشاب ذو العشرين عاماً إلى فلسطين الانتدابية العام 1919، قادماً من مسقط رأسه في الإمبراطورية الروسية، ليبدأ العمل مسّاحاً في القدس. وبعد إقامتين طويلتين لدراسة العمارة في روما وباريس، سيعود ريختر ليستقر في تل أبيب، ويضع العديد من التصميمات التي ستصبح من المعالم الأيقونية للمدينة، بطرازها الذي سيطلق عليه لاحقاً اسم "الباوهاوس الإسرائيلي"، وهو طراز تميزه تكوينات متقشفة وعملية ويغلب عليه البياض والخطوط المستقيمة.

ومع إعلان قيام الدولة اليهودية، سيضع ريختر لنفسه مهمة "منح هوية جديدة لهذه الأرض"، عبر العمارة بالطبع. هذا في الداخل، أما خارجياً، ففي العام 1950، سينتهي ريختر من تصميم الجناح الإسرائيلي في بينالي فينيسيا، لتحظى الدولة الجديدة بالاعتراف في عالم الفن، عبر مشاركة دائمة في البينالي الأشهر، والمشار إليه أحياناً باسم "الأولمبياد الفني".

خلال دورة هذا العام من البينالي، والتي اختتمت فعالياتها هذا الأسبوع، ظلت القاعة مغلقة أمام الجمهور. لكن وبفضل تصميم ريختر للمبنى ذي الواجهة الزجاجية، كان يمكن للزوار النظر إلى التجهيز الفني في الداخل، من دون الحاجة إلى الدخول.

دورة هذا العام من البينالي هي أولى المناسبات الدولية الكبرى التي كان من المزمع أن تشارك فيها إسرائيل، تليها مسابقة "يوروفيجن" في مالمو السويدية في شهر أيار/مايو، وأولمبياد باريس في الصيف. كانت الجهات المنظمة للمناسبات الثلاث، قد استبعدت روسيا من المشاركة في منافساتها بعد الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية قبل عامين. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة والعرائض التي طالبت باتخاذ قرار مماثل واستبعاد إسرائيل من الفعاليات على خلفية الحرب في غزة، إلا أن الجهات المنظمة والدول المضيفة أعربت بوضوح عن إصرارها على استضافة المشاركات الإسرائيلية.

يصح النظر إلى تلك المنافسات كمرآة لخريطة السياسة، بتكتلاتها وموازين قوتها، منعكسة في حقول الفن الجماهيري والثقافة والرياضة، إلا أن بينالي فينيسيا وبشكل خاص يتميز بحساسية سياسية فريدة. فالبينالي وهو أحد معالم الثقافة الرفيعة، إن لم يكن واحداً من معابدها الأكثر قداسة، يستدعي مشاركين وجمهور متشبعين سياسياً. لذا، فإن ما يمكن تمريره في مسابقة للأغنية الجماهيرية أو في مضمار الرياضة المصنفة أيضاً تحت مظلة الثقافة الجماهيرية، ستكون مهمة تمريره في حقول الثقافة العليا أكثر مشق، خصوصاً أن عريضة المطالبة باستبعاد المشاركة الإسرائيلية في البينالي نالت دعماً هائلاً، مع توقيع أكثر 24 ألف فنان، بعضهم من الأسماء الأكثر شهرة.

(M-otherland) هو عنوان التجهيز الفني الذي كان من المفترض أن تشارك به الفنانة الإسرائيلية، روث باتير، في البينالي. يقدم العنوان حيلة لغوية ذات دلالة، فيمكن قراءته على أنه "الأرض الأم" (بمعنى الوطن) أو "أرض أخرى". أما العمل، وهو تجهيز فني في مركز عمل فيديو، فيقدم تخيلاً لربّات الخصوبة من "منطقة اليهودية القديمة" في حالة لو صرن بشراً. وتستعين في ذلك بتركيب صور متحركة لمنحوتات أثرية لتلك الآلهة، مع مقاطع تسجيلية لنساء وأمهات معاصرات.

وعلى ما يبدو، فإن المقصود بالربّات في اليهودية القديمة، هو الربّات الكنعانيات، أما المنحوتات الفخارية في هذا العمل فجميعها من مقتنيات متحف "موزا" في تل أبيب. البراءة التي تغلف موضوع العمل وصبغته النسوية، تحاول إخفاء طبقات من الاستلاب، بداية من أعمال الاستيلاء الأركيولوجي، مضافاً إليه تحريف نسب الميثولوجيا الكنعانية وتحويلها إلى يهودية قديمة، وصولاً إلى المهمة اللحوحة لربط ماضي هذه الأرض قسراً بإسرائيل المعاصرة، عبر الخيال الفني هذه المرة.

على الأغلب كان الجناح الإسرائيلي سيتحول إلى نقطة احتجاج متواصلة بطول فترة البينالي، لولا أن باتير أعلنت قبل انطلاقه أن الجناح لن يفتح حتى وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن. بتلك الخطوة أخذت باتير مسافة من الحكومة الإسرائيلية وحربها الإبادية في غزة، وبذلك ضمنت قدراً كافياً من المصداقية لمستقبل مشاركاتها على الساحة الفنية العالمية. لكنها أيضاً نجحت في قلب منطق الاحتجاج، بحيث لا يعود الجناح جهةً لجذبه، بل أصبح هو نفسه احتجاجاً، وإن كان من غير الواضح ضد مَن بالضبط.

تحتفي جريدة "هآرتس" بإغلاق الجناح الإسرائيلي وتعتبره مُشاركة. ففي النهاية، تبدو القاعة المغلقة عملاً فنياً في حد ذاتها، فيما يحوم الزوار حولها من الخارج وهم ينظرون إلى داخلها عبر الواجهة الزجاجية الشفافة ليلمحوا بعضاً من مقاطع عمل الفيديو. وهذا يبدو صحيحاً، ومع هذا فإن العزلة الإسرائيلية لا يمكن إنكارها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها