الأربعاء 2024/04/24

آخر تحديث: 16:16 (بيروت)

المسرح في طرابلس وزغرتا بين الماضي الزاهر والواقع والتمنّيات

الأربعاء 2024/04/24
increase حجم الخط decrease
بدعوةٍ من تجمّع "فيحاؤنا"، وبحضور كوكبة من أهل الثقافة، انعقدت في المسرح البلدي في زغرتا، قاعة بيار فرشخ، ندوة حول تاريخ المسرح في عاصمة الشمال طرابلس، منذ بداياته وحتى المراحل المتأخرة، وكذلك عن النشاطات المسرحيّة في الجارة زغرتا منذ أوائل القرن العشرين وصولاً إلى مرحلة فرقة "الديوان" وما أعقبها.

أحيا الندوة الممثّل والفنان فائق حميصي، والممثل سيمون القدنلفت، والكاتب والناقد جان هاشم. وتناول كلّ منهم الموضوع من زاوية اهتمامه ونشاطاته ومشاركاته في مراحل متعدّدة من مسار هذا الفنّ عاصمة الشمال والبلدة الجارة.

قدّم للندوة وأدارها الأستاذ محسن إ.يمّين. ثمّ رحّب بالحصور لافتاً إلى استعادة المسرح البلديّ في زغرتا نشاطه، ورأى أنّ نشاط "فيحاؤنا" هذا إنما هو من ضمن الأعمال الثقافيّة "كسبيل لمواجهة ظروف الحرب والانهيار". 

فائق حميصي والهمّ الأكاديميّ
تناول فائق حميصي في كلمته دور طرابلس التاريخيّ في النشاطات الفنّية والمسرحيّة منذ المرحل المبكّرة من القرن العشرين، حتى لَيُمكِن اعتبارها مركزاً "جيوفنّياً" بحسب تعبيره، وهو ما سيحاول إثباته في كلمته.

استعان حميصي في مداخلته بعرض صوريّ بنظام "الباور بوينت" متعمداً الحوار مع الحضور وهو يستعرض صوراً لمشاهير مرّوا بطرابلس أو انطلقوا منها، ذاك أنّ طرابلس كانت محطّة أساسية، لكلّ ساعٍ إلى الانطلاق في عالم الفنّ، أو إلى إطلاق عملٍ فنّي جديد، ومن ينَلْ رضى أهل الفن فيها و"إجازتهم" يُكمل مشواره إلى سائر العواصم العربيّة ليثبت شهرته ويجني ثروته عبر مسار معروف في ذلك الحين (القاهرة، طرابس، حلب، بغداد، حيفا). ومن الذين مرّوا بها محمد عبد الوهّاب وأم كلثوم...

تحدّث حميصي قليلاً عن المراحل الأولى مع مسرح الظلّ ومسرح الحكواتي، راوياً بشكلٍ مشوّق بعض أشكال المنافسة و"المبارزة" التي كانت تقع بين الفرق، جماعة عنترة مثلاً وجماعة الزير. كما بيّن بعض المغالطات التاريخية التي كانت تقع فيها، والناتجة من البيئة التي يعيشون فيها (مثلاً عنترة كان قبل الإسلام، وقد جعلوه مسلماً، والمعروف أنه لم يتزوّج وهم زوّجوه).

ثمّ بيّن حميصي أن هذا الموقع والدور لم يأتِ من فراغ، بل من أصالة فنّية مترسِّخة في "البلد" مع مسرح "الإنجا" الذي يضاهي كبريات دور الأوبرا والمسرح في العالم، مؤكِّداً أنّ هذا المسرح بما قدّمه من أعمال قد فتح أعيُن بعض أبناء طرابلس على هذا الفنّ، وحملهم على دراسته في الخارج، في إيطاليا كما فعل عبد الله الحسيني ونزار ميقاتي، ثمّ عادا للعمل في طرابلس، عروضاً وتعليماً، وقد انتقل ميقاتي بعدها إلى بيروت فيما أسس الحسيني مدرسته في المدينة وقد خرّجت الكثير من مشاهير الممثلين والمخرجين، وحتى في مجال السينما.



ومن مسرح "الإنجا" انطلق الكثير من المشاهير الذين انتقلوا إلى القاهرة وعملوا في مجال السينما والمسرح، ومنهم ببا عزّ الدين وسهام رفقي وعبد الله الحسيني وغيرهم. ومع مدرسة عبد الله الحسيني ونزار ميقاتي وفيما بعد معهد عبد الله حمصي (أسعد) تأسّست فرق تمثيليّة في المدينة (فرقة الحلوة، أبناء نبتون، الزهور، كوميديا لبنان)، لكنها انتقلت كلها تقريباً إلى بيروت عندما فتح "تلفزيون لبنان" الذي اعتمد في بداياته على ممثّلي الشمال وخصوصاً في المسلسلات الأولى الناطقة بالعربيّة الفصحى. وظلّ بعضهم في طرابلس مثل فرقة شربل النعيمي ورفيق الرفاعي.

ولم يوفّر حميصي عرض لقطات من الأفلام التي كان لأَعلام طرابلس المسرحيّين يدٌ فيها مثل فيلم "ليلى العامريّة" الذي مثّل فيه عبد الله الحسيني، وفيلم "إلى أين؟" وهو من إخراج باسم نصر خريج مدارس المدينة.

وغالباً ما يلفت فائق حميصي في ندواته إلى دور عبد الله حمصي (أسعد) في توجيهه، هو نفسه، وبإصرار إلى الدراسة الأكاديميّة، إذ حذّره بحزم من الانخراط كلّياً في هذا المجال قبل التعمّق فيه دراسة وتخصّصاً، واصطحبه عند يعقوب الشدراوي الذي كان يدرس الإخراج آنذاك في روسيا، ليشدّد عليه بدوره بضرورة التخصّص. ثم كان عرضه الصامت مرّة أمام المسرحيّ ابراهيم زود، الذي سأله "أتعرف ماذا تمثّل أنتَ؟" فأجابه فائق "نكته خرسة"، فقال له زود "هذا فنّ قائم بذاته، إنه فنّ الإيماء وله أصوله التي تُعلَّم وتُدرّس"، وهذا ما وجّه خطاه الأولى نحو دراسة المسرح والتخصّص في الإيماء.



سيمون قندلفت وظاهرة الإقبال الشعبيّ
تناول قندلفت في كلمته نشأة المسرح في زغرتا منذ أكثر من مئة سنة لافتاً إلى اهتمام مجتمع ريفيّ زراعيّ بهذا الفنّ الذي قاده واهتمّ به بعض الأعيان والزعامات والمتعلّمين والمتنوّرين آنذاك".

أوّل المهتمّين، والطليعيّ ربما، كان توفيق طنوس المعلّم في مدرسة مار يوسف في بداية القرن العشرين والذي قدّم مع طلابه بعض المسرحيّات تحت إشرافه. وقد لفت قندلفت إلى الدور الريادي الذي لعبته مدرسة مار يوسف هذه في تحفيز وتحريك الاهتمام بالأعمال المسرحيّة في المنطقة. والجدير ذكره أنّه من هذه المدرسة كانت انطلاقة المخرج الزغرتاوي اللبناني يعقوب الشدراويّ.

وبعد الحرب العالميّة الثانية عادت الحياة إلى خشبات زغرتا-إهدن مع مجموعة من الشباب. وتحوّلت بعض المقاهي، في زغرتا وإهدن، مسارح  قدِّمت فيها العروض، ما يدلّ على أن المسرح أصبح حاجة عند أهل المنطقة أكثر منه محطّة آنيّة. ثمّ عدد القندلفت المسرحيّات، المترجمة أو الموضوعة محلّياً، والتي عُرضت على خشبات زغرتا-إهدن. واللافت هنا أنّ بعض المهتمّين من خارج المنطقة وجدوا في هذا الاهتمام فسحة مؤاتية لكي يقدّموا ما عندهم، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الشاعر شبلي الملاط الذي كان مدير الناحية آنداك، فترجم تمثيليّة "الكونت دي أستيلا" التي قدّمها تلامذة مدرسة داريّا، التي خصّصت، في خطوة لافتة وذات دلالة، قاعة دائمة للمسرح، وهو ما ينمّ عن اهتمام اهالي المنطقة على الأقل بهذا الفنّ التمثيليّ.

ولم يفُت زغرتا دور الحكواتي الذي ازدهر فيها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي مع السيد يوسف الجعيتاني.

أما المرحلة الذهبية فقد ازدهرت انطلاقاً من الستينات، إذ تعدّدت العروض المسرحيّة في المنطقة، وتكاثرت العناوين والموضوعات المُقتبس بعضها من التاريخ السياسي والديني المحلّي، ومعظمها من وضع وتأليف وإخراج كتّاب وأدباء ومهتمّين، عملوا في إطار القطاع المدرسي أو في رحاب المجتمع المحلّي الأوسع. وقد حرص قندلفت على ذكر أسمائهم، ولم يفُت القندلفت توجيه تحيّة خاصة ليعقوب الشدراويّ.

جان هاشم وقصّة نجاح
تحدّث أخيراً الكاتب جان هاشم عن تجربة فرقة الديوان التابعة للحركة الثقافية في زغرتا في ثمانينات القرن الماضي، وقد كان أحد مؤسّسيها والمشاركين في أعمالها. وقد وجّه في بداية كلمته تحيّة إلى روح الروائيّ جبور الدويهي الذي كان وراء تأسيس الفرقة ولعب دوراً محورياً جامعاً ومنسقاً، ناهيك من مشاركته تمثيلاً وإخراجاً.

تناول هاشم بدايات الفرقة في العام 1982 ثم استعرض الأعمال الأربعة التي قدّمتها على مدى أربع سنوت، "مهاجر بريسبان" لجورج شحاده (1982) و"حكاية فاسكو" لجورج شحاده أيضاً (1983) و"عرس الدم" للوركا (1984) و"الملك يموت" لأوجين يونيسكو(1985)، مذكّراً بالنجاح الذي لاقته أعمالها، والإقبال الذي شهدته في ظلّ ظروف الحرب التي حاصرت الناس في مناطقها. لكن فرقة الهواة هذه تغلّبت على تلك الظروف وعملت بنفَسٍ احترافيّ رفيع جعل نجاحها يكسر حواجز القوقعة التي اقامتها الحرب ليصل اسمها إلى بيروت ويجعل أهل "الكار" والصحافيّين يحضرون إلى زغرتا لمشاهدة عروضها والثناء عليها، وحتى أنّ بعض أهل الاختصاص تمنّى العمل معها. لكن انفراط عقد الفرقة، بفعل الظروف المعيشيّة والدراسيّة الخاصّة بكلٍ من أفراد فرقة الهواة هذه، أدى إلى توقفها عن العمل، تاركة أثراً طيّباً في نفوس من شاهدوا أعمالها، ووسط تمنّيات بأن تعاود نشاطاتها. إذ إنّ هذا النجاح جمع حول الفرقة جمهوراً كان ينتظر أعمالها من سنة إلى أخرى، بلغ عدده حوالى 1300 شخص، وهو رقم مهمّ جدّاً في ظلّ الظروف التي كانت تعيشها البلاد. وبالتأكيد له دلالته، إذ لولا جدّية العمل وجماليّته وحسن أدائه لما انجذب الناس إلى هذه الأعمال.

وقد لفت هاشم إلى جو التعاون (العونة) الذي ساد بين أعضائها إن في اختيار النصوص، أو في ترجمتها إلى اللغة المحكيّة المحلّية، أم في تصميم الأزياء والكتيّبات والملاصق، أو في إدارة المسرح وتجهيزه بما يلزم من أثاث ومعدّات، وهو ما أدّى إلى تجاوز عدد المشاركين في مختلف جوانب أعمال الفرقة الخمسين عضواً، نشأت بينهم علاقات صداقة وروابط مودّة ما زالت تجمعهم حتى اليوم، مع أن الفرقة منيت العام 1983 بمقتل أحد أعضائها الأساسيّين، الفنّان الواعد بيار فرشخ.

كما لفت إلى أنّ الفرقة عملت على إحياء الجوّ المسرحيّ المستحبّ في زغرتا-اهدن، واستقدمت اعمالاً من بيروت عُرِضت في زغرتا وإهدن، كما اشتغلت على تأسيس محترف أقلّه للهواة، لكن الظروف المذكورة أعلاه أدّت إلى توقف هذه المشاريع، وكان اللافت أنّ لا أحد من الذين عملوا في الفرقة توجّه إلى التخصّص في المسرح أو التمثيل، كأنما تأكيداً على "أننا هواة، لكن مبدعون".

خلاصات وتمنّيات
حرص المنتدون الثلاثة على استخلاص العبر من هذه التجارب، وعلى طرح التطلّعات والطموحات. فسيمون القندلفت أكّد في كلمته أنّ كثافة الأعمال المسرحيّة التي قدّمت محلّياً في منطقة زغرتا الزاوية، واستمرارها طوال القرن العشرين تقريباً، إنما يدلّ على شغف أهل المنطقة بهذا الفنّ، والنابع ربّما من ثقافة فنّية نشرتها المدارس الخاصّة في المنطقة وشجعت عليها، ناهيك من مشاركة الزعامات السياسية والوجهاء في هذه الأعمال تشجيعاً ومشاركة في التمثيل، ما يحدو الناس ربّما على إيلاء هذا الفنّ اهتماماً وتقديراً رفيعين.



أما جان هاشم فقد رأى أنّ جدّية الأعمال وإتقانها، والعمل على إنجاحها هو ما يجذب الناس ويُنمّي جمهور المسرح والثقافة الفنّية عموماً ويثبّت هذا الفنّ وينشره، بدليل ما حقّقته فرقة الديوان، التي تمنّى أن تشكّل "نموذجاً تحتذيه أجيال اليوم من أجل النهوض بالثقافة من القعر الذي تُشَدّ إليه في أيامنا هذه". وقد تساءل لماذا لا تقوم محترفات وفرق بإشراف أهل الاختصاص والمهتمّين في طرابلس والشمال وتعدّ الأعمال وتقدِّم العروض بشيء من الاستقلاليّة عن المركز بيروت. فلماذا لا تكون الأعمال ممهورة بطابع طرابلس والجوار لتنطلق من المحلّي إلى العام؟

وهذا ما تمنّاه بدوره الأستاذ فائق حميصي، الذي ختم بالإشارة إلى اهتمام المسرحيّين الشماليّين بالدراسة الأكاديميّة (عبد الله الحسيني ونزار ميقاتي وشكيب خوري ويعقوب الشدراوي)، وإلى دور الشماليّين في "تلفزيون لبنان"، وإلى تمسكّ بعضهم بالعودة إلى طرابلس والعمل فيها، مثل عبد الله الحمصي ورئيف الرفاعي وغيرهم، باذلين جهوداً كبيرة في سبيل نشر هذا الفنّ وإعلاء شأنه. متمنّياً في النهاية أن ينشاً في المدينة مسرح دائم، مثل مسرح الرابطة الثقافية مثلاً، أو ما شابه، مبدياً أسفه بشيء من السّخرية المرّة لأن مسرح معرض طرابلس الدوليّ لم يعمل، بعد أن غُيِّب عمداً كما أُزيل من الوجود مسرح الإنجا الشهير، والذي كان له الفضل الكبير على النتاجات المسرحيّة وتخريج الفنّانين مشكّلاً صورة حيّة عن العصر الذهبيّ الذي عاشته المدينة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها