في كتابه "قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية"(*) الصادر حديثاً، يسعى الباحث أ.د. محمـد أميـن الميـدانـي، رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، إلى بسط المعرفة أمام القارئ على مستويين أساسيين: تقديم المعلومات الأساسية للقارئ عن المحكمة وأساليب عملها، وأيضاً سرد التفاصيل حول مشاركة قاضيَين سوريَين في عملها، وعرض مساهماتهما في القضايا التي دعيا للعمل في تحكيمها.
فإذا كانت الفائدة المعرفية حول المحكمة ضرورية من أجل قارئ لا يمتلك المعلومات عنها، ومما تتكون؟ وكيف تعمل؟ فإن عرض تجربة القاضيين السوريين تبدو مهمة جداً بالنسبة للمتخصصين وللسوريين عموماً، لا سيما أن العادة قد جرت على إبراز حضور الرياضيين والفنانين والإعلاميين في المحافل الدولية، بينما يعمل أصحاب المهن الأخرى في الظل، ويكاد الجمهور لا يسمع بأسمائهم، وربما لا يعرف بوجودهم.
هذا الكتاب "قانوني بالدرجة الأولى ومع بعض المراجعات والمواقف التاريخية" بحسب توصيف مؤلفه له، يعرض تفاصيل عن المشاركة المهنية للقاضي الدكتور صلاح الدين ترزي بين العامين 1976 و1980، والقاضي الدكتور عبد الكريم الخاني بين العامين 1981 و1985، وذلك ضمن هدفه الأساسي وهو "إعداد كتاب أكاديمي قانوني يتعلق بإسهام هذين القاضيَين السوريَين في اجتهادات محكمة العدل الدولية".
فقد ساهم القاضي ترزي، وهو أول مواطن سوري يشغل منصب قاض هنا، في تحكيم قضيتين: قضية الجرف القاري لبحر أيجة (اليونان ضد تركيا)، وقضية الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية بطهران، وقد انقطعت مساهماته بسبب رحيله إثر حادث مفجع في مدينة لاهاي، حيث صدمه ترامواي في لحظة من لحظات شروده المتكرر.
أما القاضي الخاني، فقد ركز الباحث الميداني على ما هو مثبت من مشاركاته في السجلات، وقد ساهم في القضايا والآراء الاستشارية بخصوص طلب تعديل الحكم الرقم 273 الصادر عن المحكمة الإدارية لمنظمة الأمم المتحدة، والقضية المتعلقة بالجرف القاري (الجماهيرية العربية الليبية/مالطا) وقضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها.
ويذكر المؤلف أن التركيز على الشأن القانوني والمساهمة في محكمة العدل الدولية، إنما هو محاولة استنهاض، في سبيل أن يتفرغ أحد ما مستقبلاً "لإعداد كتب (تراجم) عن هذين القانونيَين، يسلط الضوء على مسيرتهما وحياتهما ودورهما في تاريخ سورية المعاصر".
في واقع الأمر، ورغم أن سياق الكتاب يحكي عن تجربة سابقة، إلا أنه يوقظ العقول إلى حقيقة غياب القضاة السوريين، في الفترات التي تلت حضور القاضيَين الراحلَين، ويجعل السؤال عن السبب وراء ذلك حاضراً، وهنا يجيب الباحث الميداني على سؤال "المدن" فيقول: "غياب الترشيحات لا يخص فقط هذه المحكمة، لكن أيضاً اللجان المعنية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وطوال السنوات الماضية لم أصادف في جنيف، إلا "خبيرة" سورية واحدة في لجنة حقوق الطفل، ولم تكن على المستوى المطلوب"!
وبحسب الباحث فإن الترشيح يتم عن طريق حكومة أي بلد لشغل المناصب في المحكمة أو في اللجان، وبعدها يتم الاختيار، لذلك دور الحكومة في أي بلد مهم وحاسم في هذا الموضوع.
لكن المشكلة لا تتعلق بالترشيح فحسب، بل ترتبط أيضاً بمسألة عميقة يعبر عنها بالقول إنه "لم تعُد في سورية كوادر قانونية مؤهلة بشكلٍ جيد وفي العديد من المجالات، ومن بقي هم كبار السن من أستاذتنا في السبعينات من القرن الماضي".
التركيز على المسائل التخصصية في عرض التجربتين اللتين عمل عليهما الباحث في كتابه هذا، لا يمنع القارئ، متخصصاً كان أو غير ذلك، من التفكير في ما آلت إليه الشخصية القانونية السورية، في ظل الأوضاع التي عاشتها ومازالت تعيشها البلاد المنكوبة. ورغم أن كل شيء بات مرتبطاً بالسياسة، إلا أن الحاجة إلى خبراء ومتخصصين في الشؤون القانونية الداخلية وكذلك في القانونية الدولية، يفرض وجود استراتيجية ترمم النقص. وإذا كانت المؤسسات المعنية غائبة عن هذا الشأن، فإن دوافع الأفراد، وعلى وجه الخصوص الأجيال الجديدة في الداخل والخارج، لا بد من أن تصحح هذا الميلان العجيب في ميزان العدالة السورية.
(*) "قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية". تأليف أ.د.محمد أمين الميداني. صادر عن شركة المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، 2024.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها