السبت 2024/11/02

آخر تحديث: 13:10 (بيروت)

"خلف السور...40 سنة عمل في الجامعة الأميركية" لزياد كاج

السبت 2024/11/02
"خلف السور...40 سنة عمل في الجامعة الأميركية" لزياد كاج
increase حجم الخط decrease
صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب "خلف السور..40 سنة عمل في الجامعة الأميركية في بيروت" لزياد كاج.

وجاء في مقدمة الكتاب:

في حزيران 1985، بدأت عملي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت بصفة "كاتب طابق".

كل الكلمات والعبارات وحتى اللغة المتداولة بين الأطباء والممرضات كانت باللغة الإنكليزية. رحتُ أستمع جيداً كي أتعلم العبارات الطبية الغريبة بالنسبة لجامعي تخصص في الصحافة والأدب الإنكليزي!! وكوني تعلمت الإنكليزية من خلال قراءة القصص المبسطة، المفروشة على أرصفة شارع الحمرا بأسعار زهيدة، بقيت مقدرتي على التحدث باللغة أضعف بكثير من القراءة والكتابة.

تخرّجت في الجامعة اللبنانية بإجازة في الصحافة ووسائل الإعلام، وكنت على وشك التخرج من جامعة بيروت العربية في الأدب الإنكليزي، وسنحت لي فرصة الوظيفة في الجامعة الأميركية في أواسط الثمانينات. لكنني أعترف اليوم بأنني اكتسبت كل خبراتي ومعرفتي وتجاربي الحياتية خلال ما يقارب 40 سنة داخل الجدران الآمنة لهذه الجامعة. فهي وفّرت دعماً لي ولعائلتي مادياً وصحياً واجتماعياً وثقافياً.

تتلخص تجربتي في الجامعة الأميركية بثلاث مراحل: "أول 15 سنة" أمضيتها في المستشفى "ككاتب طابق" خلال الحرب الأهلية. المرحلة الثانية امتدت إلى 12 سنة في "مكتبة صعب الطبية" في دائرة الإقتناء. والمرحلة الأخيرة والمستمرة حتى اليوم، كانت في "مكتبة يافت" في الحرم الجامعي بصفة مساعد أمينة مكتبة. الأمر المضحك والقدري هنا، هو أنني خلال دراستي في الجامعة اللبنانية - كلية الإعلام، هربت من قسم علوم المكتبات الذي كان يشرف عليه أستاذ قدير ومتشدد وانتقلت إلى قسم الصحافة لعدم رغبتي في الدرس الجدي والإنضباط.

بعد سنوات طويلة، وجدتني أعمل في مكتبة وكنت أمام تحدي إكتشاف هذا العالم الجديد، وتعلم أسرار المهنة التي لم أرغبها يوماً. في "مكتبة يافت"، إلتقيت من جديد بأستاذي المسؤول عن قسم الفهرسة.

في المستشفى كنت محاطاً باللون الأبيض: اللباس الأبيض للأطباء والممرضات والممرضين، والشراشف البيضاء وأغطية الوسادات والمناشف والشاش والقطن.. الخ. حتى المرض والموت بدا وكأن فيه شيء من البياض. في مكتبة صعب الطبية، إشتغلت على الكتب الطبية الدسمة والثقيلة الوزن، وكأنني حللت في بيئة وسطية بين المستشفى والجامعة. في "مكتبة يافت"، كل شيء تحول إلى الأخضر في الحرم الجامعي الجميل. لكن هذا الكتاب ليس عن الألوان في حياة إنسان، بل عن تجارب شاب في الوظيفة، وعن تحديات وتجارب وإكتشافات ورحلة نضوج وتفتح وعي. وهو أيضاً، عن أشخاص عرفتهم وتركوا أثراً — إيجابياُ أو سلبياً — في مسيرتي المهنية وفي مشوار الحياة.

نضجت وتقدم بي العمر، ككثر غيري من الزملاء والزميلات والأصدقاء، داخل الأسوار العالية والمحمية للجامعة ونحن نعتبرها "ككائن حي".. "كبيت". منذ انطلاقتها الرسمية عام 1866، عاصرت واجهت، وتخطت الجامعة تحديات مهولة كثيرة: حربان عالميتان، جيوش إحتلال عابرة، أزمات سياسية وحروب إقليمية ومحلية، إشتباكات عسكرية بين ميليشيات متناحرة في بيروت، حكومات وأنظمة سياسية فاسدة، قصف عشوائي طال المحيط والحرم حيث سقط قتلى وجرحى، إغتيال وخطف رؤوساء وعمداء وإداريين أجانب، تفجير مبنى "الكولج هول"، وتفجير في مدخل المستشفى.. وأخيراً، الإنهيار المالي الكبير، وجائحة كورونا العالمية وإنفجار مرفأ بيروت في 4 آب.

خلال جائحة كورونا التي ضربت العالم ووصلت إلى لبنان، اُغلق البلد وُطلب من الناس ملازمة منازلهم للتقليل من سرعة إنتشار الوباء. طلبت الجامعة من موظفيها وإدارييها العمل "أون لاين" من البيت. طلبت إذناً خاصاً لقصد المكتبة بهدف تصوير عدد من الكتب والوثائق كي أشتغل عليها في البيت. دخلت إلى المكتب ونظرت من النافذة التي تطل على الحرم الأخضر والطريق المؤدية إلى منزل الرئيس. لأول مرة أرى الحرم خالياً، مقفراً... لا حياة فيه. أين الطلاب والطالبات والأساتذة وهم روح الجامعة؟ كان مشهداُ حزيناً ومخيفاً، فسألت نفسي: "هل ستنجو الجامعة هذه المرة؟"

لا أكتب هنا فقط عن التجارب والذكريات الجميلة والمفيدة التي عشتها خلال ما يقارب الأربعين سنة عمل في الجامعة، بل أيضاً عن تجارب وتحديات سلبية ومحبطة. بفضل نظام وقواعد العمل الواضح والصارم للمؤسسة، يستمر العمل وتستمر "الدواليب بالدوران" ويتعايش الموظفون من كافة الملل والمناطق. ولولا هذه الأنظمة والخطوط الحمر للسلوك الوظيفي، لتسللت إلى الجامعة أمراض الفساد وعقلية المنافسة الطائفية والسياسية من البيئة المأزومة في البلد والمنطقة. بمعنى أوضح "كانوا دبحوا بعضن". ولكن هل استطاعت حقاً؟

ليست الجامعة جزيرة معزولة عن محيطها. والإدارة الأم في نيويورك تعرف أن بعض الإداريين الكبار ومساعديهم المحليين المختارين يستغلون سلطتهم لمصلحتهم الشخصية والنفعية. وكقاعدة عامة، يميل الميزان داخل المؤسسة لصالح الطرف أو الأطراف التي لديها اليد العليا في البلد. كان ذلك منذ قبل 1866، زمن السلطنة العثمانية وباشاواتها، واستمرّ وصولاً إلى الزمن الحاضر".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها