الزمن البشريّ المتقدّم في "خلائهِ" الميتافيزيقيّ، يتوقّف، يتأمّل دورةً من دورات البربرية التي تعود من أقدم نقطة في تاريخ الإنسان المعاصر، ويكشف عن نزعة خافية تحت مسار البشرية الطويل، محتفيةً بسطوتها ووحشيتها.
بعد سقوط الرايخ الألماني الثالث قُدِّم المسؤولون عن إبادة اليهود وأعراق منبوذة- بنظر النازيّين- إلى المحاكمة ونالوا جزاءهم العادل، بل تحوّلت قضية القبض على ضابط نازيّ كبير، مسؤول عن الإبادة الجماعية لليهود، هو أدولف آيخمان، ومحاكمته في وقت لاحق، إلى قضية لمحاكمة "الشرّ" مفصّلة في كتاب من تأليف حنه أرندت، غدا من أهم التقارير الأخلاقية التي تنتصر لعدالة المظلومين بمواجهة أنظمة عدوانية لا تقيم وزناً للبشر ولا حقّهم في الحياة بكرامة وأحقّية في الوجود الحرّ.
وهنا ايضاً تقدّم ميديا الحدث التاريخيّ الراهن تقريراً جديداً موثّقاً بدليل مفزع، هو تعرية الأسرى الفلسطينيين قبل سوقهم في مسيرة مجهولة المصير؛ كأنّما الجنود الاسرائيليّون يعيدون بنشرهِ واحدةً من صور مسيرة اليهود المعتقلين، الذين أجلاهم حرّاسهم عند اقتراب الحلفاء من معتقلاتهم إلى معتقلات في العمق الألماني، في أيار ١٩٤٥، نهاية الحرب العالمية الثانية (عرضَ التلفزيون الألماني DW قبل أيام تقريراً مصوَّراً لهذا الإجلاء في حلقتين). يختزن الزمنُ المندحر، في حلقاته المخزية، عشرات من تاريخ الهزيمة- التي تبدو في ظاهرها صيداً سهلاً لخصم ضعيف منزوع السلاح، لا يملك غير ثيابه التي يرتديها. هذه الصورة تشجّع الإحساسَ الجريح على خزْن كلّ جزء منها، لأنّه سيحتاجها يوماً عندما تحلّ دورةُ عنفٍ وكراهيةٍ ومسحٍ عِرقيّ سيكشف الزمن اللولبيّ عنها، في هذا المكان أو غيره.
كم يلزم البشرية من وقت لحذف هذه الصورة من سجلات الحرب في إحساس جيل فتيّ، منقّىً من الآلام والندوب الروحية العميقة؟ كم يلزم من الحذف والتعديل والتزييف للوثائق والصور كي تؤجِّل العدالة حُكمَها على النسق التكراريّ المشؤوم لإجلاء الأسرى؟ ليس من حدس أقوى من تردّد أصواتٍ تحت الأنقاض بعد انهيار مبنى متعدّد الطبقات على سكًانه، أو عربةٍ يجرّها حصان هزيل محمَّلة بأكداس الجثث... لا مزيد من الصور- أيها الشّهود الحسّاسون- دعوا المخيلة الكسيرة/ الخارجة من مشفاها، تعقد محكمتَها.. ولننتظر ما يتجمّع لدينا من قصص وصور توقِف هذا العرض عند حدّه المكشوف.
أية مأساة كامنة في عمق هذه الصورة؛ بل أي شرّ يطلّ برأسه من بين الخرائب والأجساد المعرّاة؟ وَضعَت حنه أرندت عنواناً ثانوياً لكتابها عن قضية آيخمان هو "تفاهة الشرّ"، ولن تُفصح صورة الأسرى الفلسطينيّين عن أكثر من مقدار "التفاهة" التي تفرزها مأساة الحرب على غزة. أنشهد في نهاية المطاف محاكمةً للشر التافه تحت عنوان مشابه؟ أنشير إلى عمق المأساة أم إلى كوميديا التوافه المكرّرة بغباء عنصريّ مطلق؟
(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها