نشر هرمان هسه (الحاصل على جائزة نوبل للأدب) هذه الرواية في العام 1922، وقد أصبحت لاحقاً من الأعمال الأدبيّة الألمانيّة الأكثر ترجمةً ومبيعاً على مستوى العالم، خصوصاً منذ ستينيّات القرن المنصرم، إذ لاقت رواجاً واسعاً لدى حركة الهيبيز في الولايات المتّحدة، ثمّ لدى الحركة الطلابيّة في أوروبا. وثمّة ترجمات عربيّة عديدة لـ"سدهارتا"، آخرها ترجمة سمير جريس التي صدرت عن دار "الكرمة" في نهاية العام الماضي.
عن الأسباب التي دفعته إلى إنجاز ترجمة جديدة، يقول سمير جريس في كلمته الختاميّة إنّ الترجمتَين الأكثر شيوعاً – الأولى لفؤاد كامل، والثانية لممدوح عدوان – جيّدتان في العموم، "لكن يعيبهما (...) أنّهما عن لغة وسيطة، ولذا تكرّران أخطاء الترجمة الإنكليزيّة نفسها...". ويضيف: "أمّا الترجمة التي أنجزتها جيزلا فالور حجار عن الأصل الألماني فتتّسم بالحَرفيّة الشديدة التي تعوق القراءة في كثير من الأحيان".
نظراً لعدم اطّلاعنا على تلك الترجمات السابقة، لا نستطيع التعليق على تقييم سمير جريس لها. ومع ذلك، يمكن القول إنّ هذه الترجمةَ الجديدة سلسلةٌ وجميلةٌ، وأنّ قراءتها تشبه قراءة نصّ ديني، خصوصاً من حيث بساطة الأسلوب وشاعريّته، فضلاً عن تكرار بعض الكلمات، ما يخلق نوعاً من الإيقاع الموسيقي.
تحكي هذه الرواية قصّة شابّ يُدعى سدهارتا، يبحث عن معنى الحياة والحقيقة المطلقة في الهند القديمة. إنّه ابن براهمان (البراهمة، ومفردها براهمان، هم أفراد طبقة رجال الدين ويشكلون الطبقة العليا عند الهندوس)، وقد تدرّب على فنّ التأمّل وتلقّى أصولَ تأديةِ الشعائر وتقديمِ القرابين، فبرع في كلّ ما تعلّمه وكان مصدر فخر وبهجة لوالديه. "أمّا هو، سدهارتا، فلم يكن مصدر بهجة لنفسه، أو مصدر نشوة لذاته". كان يشعر بعدم الإكتفاء، وكانت روحه عطشى لا يرويها شيء ممّا تعلّمه، فلم يكن يعرف السكينة.
قلقُ سدهارتا الوجوديّ وشعورُه بالخواء واللامعنى سيدفعان به إلى سعيّ روحيّ طويل يستغرق معظم عمره. يترك مدينته وأهله ويلتحق بمجموعة من النُّسّاك، فيعيش بضع سنوات زاهداً متقشِّفاً، يتسوَّل طعامه ويمضي جلّ وقته في الصوم والتأمّل. لكنّه لا يعثر على مبتغاه فيرحل من جديد.
يلتقي ببوذا ويستمع إلى تعاليمه، فيرى فيه إنساناً بلغ الكمال، لكنّه يتيقّن في الآن عينه من أنّ تعاليم بوذا، بالرغم من سُمُوِّها، لا تصلح للجميع، وأنّ عليه أنّ يعثر على طريقه بنفسه، بلا معلّمين ولا تعاليم، لا بل أنّ عليه أن ينسى كلّ ما تعلّمه حتّى الآن، فيرحل مرّة أخرى بحثّاً عن شيء لا يدرِك كنهه.
عندما يتخلّى سدهارتا عن التعاليم كلّها يعي أنّه لم يختبر شيئاً من الحياة بعدُ، إذ كان يعتبر عالم الحوّاس الذي نُبصره ونسمعه ونلمسه ونشمّه ونتذوقّه مجرّد وهمٍ ينبغي تجاوزه للوصول إلى المطلق. لذلك يقرّر أن يعيش مثل عامّة البشر، فينغمس في دنيا الملذات وعالم التجارة والأموال. يلتقي بغانيّة فائقة الجمال تُدعى كَمالا، فتعلِّمه فنّ العشق وممارسة الجنس. يصبح تاجراً ثريّاً ومرموقاً، وتمضي السنوات، إلّا أنّ الشعور بالخواء واللامعنى يعود ليتملّكه من جديد، فيُصاب باليأس ويروح يفكِّر في الإنتحار. فيرحل مرّة أخرى وقد بات كهلاً أربعينيّاً.
يستمرّ سدهارتا في سعيه لسنوات طويلة، لكنّه يجد الخلاص في شيخوخته، بعدما أصبح سائق قارب صغير ينقل المسافرين من ضفّة النهر إلى الأخرى. إنّه خلاصٌ لا يمكن التعبير عنه بالكلام، إذ أنّ الكلامَ أحاديٌّ لا يُغلِّف إلّا جزءاً من الحقيقية، فيفتقر إلى الكمال والشمول والوحدة. الخلاص والحقيقية المطلقة لا يمكن تعليمهما ولا النطق بهما، يمكن فقط أن يُعاشا ويُختبرا. وكلّ فرد لا يعثر عليهما إلّا بنفسه، إذا شقّ طريقه الخاص، وليس باتّباع التعاليم والمُعلّمين. هذه هي الحكمة التي يصل إليها سدهارتا، فينعم إذّاك بالسكينة.
في كلمته الختاميّة، يُشير المُترجِم إلى أنّ ما يميّز رواية هرمان هسه هذه هو استلهامها الهندوسيّة والبوذيّة (وقصّة حياة بوذا أيضاً) ومزج هذا كلّه بالفردانيّة الأوروبيّة البعيدة كلّ البعد عن البوذيّة والهندوسيّة. لا وعظ بتاتاً في "سدهارتا"، ذاك أنّ الخلاص والحكمة، كما يصوِّرهما هسه، لا ينالهما الفرد إلا إذا تخلّى عن جميع التعاليم، وابتعد عن قيم مجتمعه، واختبر الحياة بكلّ جوانبها الروحيّة والعقليّة والحسيّة.
(*) "سدهارتا: قصيدة هنديّة" لهرمان هسه، ترجمها عن الألمانية سمير جريس، دار "الكرمة"، 2023.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها