ثمة ما يشي بأن قرار الحرب الذي لا يأخذ قوة العدو بعين الإعتبار، هو أقرب إلى القرارات التي تقوم على فكّ طلاسم الغيب وتتبع تعاويذه.
جاء في الموروث العربي القديم أن القبيلة إذا ما أرادت أن تشنّ الحرب على قبيلة أخرى، استعانت أولاً بضروب من الكهانة والسحر والشعوذات عبر كهنة القبيلة، أخذاً في الإعتبار الدلالات التي تحملها كلمة "كاهن" في تلك السياقات وعلى رأسها تلك الدلالة التي تشير إلى الإطلاع على أسرار الغيب.
فأسرار الغيب هي هنا سيدة المآلات وهي التي ترسم، عبر همهمات الكاهن أو صوته الجهوري، وجهة المعركة وتوقيتها وحدودها، من دون الإلتفات على الإطلاق إلى قوة العدو وبأسه وما تحفل به ترسانة هذا العدو من رماح وسيوف ودروع وتروس وخيول وجمال ومنجنيق.
إن الحرب في تلك السياقات لا تتجاوز أن تكون ظاهرة غيبية، وكل شيء يحمل على الظن أن كاهن القبيلة (وقد يكون أيضاً زعيمها) هو البوصلة الأولى والأخيرة وغالباً ما تعاضده في شيوع نبوآته مجموعة من الرجال الذين يزيّنون كلام الكاهن في الساحات والغرف السرية والأسواق، وللتوضيح، يمكن تشبيههم في عصرنا الحديث بالمحللين السياسيين الذين يدورون في فلك ذلك الكاهن/الزعيم وأيضاً بأولئك النشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي.
كثيرة هي آليات رصد مآلات الحرب وتعقّب سبل الإنتصار فيها، بدءاً من التمعّن في أكباد الحيوانات وقلوبها، وقراءة تعرجات خطوط الرمل، ثم استنباش عظام الموتى وبشكل خاص جماجمهم بغية ملاحقة الشقوق التي في ذلك العظم، وصولاً إلى رصد الإنتصارات انطلاقاً من حركات الحيوانات، والطيور منها بشكل خاص، كالبوم والغراب والعقاب وعلى رأس كل هؤلاء الهدهد الذي اقترن في بعض المرويات بالتقوى والهدى والبوح الصامت بيقين النصر.
لا يأبه سحرة القبيلة وكهنتها بما تسرّ به الحروب من موتى وخراب، إذ جلّ ما يهم هؤلاء هو رؤاهم وتنبؤاتهم، فضلاً عن الفأل الحسن الذي لمحوا طيفه الفضفاض. فالغيب المكين قد فوّض هؤلاء بالإنصات إلى حمحماته وهسهساته بل وفوّضهم بشقّ نوافذه وأبوابه... فهُم الأدرى بالمآلات.
يحفل التراث العربي بجُملة من العناوين التي هيّأتْ الإيمان بكل ضروب الكهانة والسحر والشعوذة و"البلغصة" في شؤون الغيب، من "اجتماع الشمل في طريق علم الرمل" لنوح بن أبي الفتح، إلى "ثمرات الفؤاد عن المراد في البواطن والأكباد" لأبي سعيد الطرابلسي، و"السر المكتوم" لفخر الدين الرازي، فضلاً عن الكتاب الشهير "دلائل العارفين" لموسى بن عبدالله القرطبي، وغيرها الكثير الكثير. ومن الأسماء البارزة في هذا التراث: شقّ وسطيح وعمران بن عامر وجذيمة الأبرص وسلمة بن أبي حية وأحيحة بن الجلاح وغيرهم.
ويجمع الباحثون على أن هذا التراث الذي يقرأ العالم عبر الإشارات والرموز وأصوات الرعد وجهة الهواء وعلى صدفة اللفتات والحروف، قد تأثر بكمٍّ ضخم من تراث الطلاسم والتعاويذ التي داخلت الفضاء الثقافي للعرب، بدءاً بمترسبات بلاد ما بين النهرين والتراث العبري واليوناني والبيزنطي، وبشكل خاص تراث الفرس في علم الغيبيات والجن والملاك والعفريت والشيصبان حيث الغيب المفطور على خصائص متشابكة لا يدرك كنهها إلا كبير الكهنة الذي لا يداخل قوله – كما يرى إلى الأمر قومه وبقية الأتباع – الحد الأدنى من الخطأ أو الضلال.
إن الحرب حسب هذا التراث (الحيّ!) هي واقعة مبرّأة من الخطأ، وذلك على خلفية الغيب الذي يستدعي ضرورة وقوعها بصرف النظر عن العقابيل من موت وتشرّد، وصولاً إلى الهزائم التي تُقرأ في هذه السياقات الغامضة باعتبارها على الدوم انتصارات.
إن الغيب الذي يداخل الحياة في جملة تفصيلاتها – وغيب الحروب بشكل خاص – لا يتطرق إلى الحياة إلا باعتبارها فرضية مشوّشة دوماً... ومن يستطيع أن يلمّ بشتات هذه الحياة وتمزقاتها غير استبصارات سحرة القبيلة وسدنة طقوس حروبها التي غالباً لا تعرف للنهايات طريقاً!!
ورغم ما قد يعتور تلك الحروب القائمة على الطلاسم والتعاويذ، من موت وهلاك، فإن القداسة غالباً ما تلفّ نتائجها بصرف النظر عن كارثية هذه النتائج. فالأرض المحروقة قد تكون وعداً بأرض أخرى أكثر بهاءً، وأشلاء الجثث هي إشارة إلى طهارة ناسها، وهشاشة العالم المترتبة عن تلك الحروب هي دعوة للركون إلى عالم آخر...
إن الوسائل التي تتعلق بكهانة الحروب وغيبياتها – فضلاً عن ترسباتها في عالمنا الحديث – إن تلك الوسائل تتعهّد بالعناية بكل الموتى من أطفال ونساء وشيوخ. وإخماد المشاعر إزاء مآلات تلك الحروب، هو شرط أوّلي لعدم الشك في تكهنات الكاهن الأكبر للقبيلة وشعوذات "أئمة وسحرة" هذه القبيلة أو تلك، إذا أردنا أن نستعير عنوان كتاب الباحث إبراهيم محمود.
ما انفك التاريخ ينبئنا بأن الغيب غالباً ما يضخّم ملامح الرؤية التي تنجلي عبر التعاويذ والرقى واجتراح الصدف. فالغيب المفطور على الغموض لطالما شرّع لناس القبائل في تلك العصور السحيقة، تبنّي ما يخالف حُسن مقاصدها.
إن الكاهن الذي يقرأ درب الحرب، عطفاً على حسيس النمل وتتبع الفأل الحسن عبر النجوم والطيور وما شاكل في دروب القيافة والفراسة والزجر والإستنزال، يبدو أنه في بعض تعييناته ما زال حاضراً بيننا كما تشير علينا تلك الحروب غير محسوبة النتائج بالمرة. إن ذلك الكاهن ما زال هنا يحرّك عصا نبوآته فوق المساحات والحدود حيث الموت هو سيد المشهد وزينته. وربما خير ما يبتغيه المرء في عالم من هذا النمط، هو الموت والإضمحلال كما جاء في كتاب "خير الأبدان في الأكفان" للعارف بالله العبد الفقير فوزي بن سلمان ذبيان.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها