قبل بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ نحو شهر، انتشرت صورة نُسبت للمصور رمزي حيدر في صفحات فايسبوك، تظهر فتاتين تتنزهان على شاطئ مدينة صور الجنوبية الساحلية. فتاة سافرة بثياب البحر أو تنورة قصيرة بيضاء وسوتيان ووشم عند أسفل ظهرها من دون أن يظهر وجهها، برفقة فتاة ترتدي بذلة ربّما رسمية سوداء مع حجاب رمادي. وتداول معشر النشطاء، الصورة، وأرفقها بعضهم بعبارة "هذه هي مدينة صور... وهذا شاطئها وبحرها وتلك معيشتها ومعتقداتها".
الفحوى من الصورة ليس فنّيتها، بل جمعها التناقضات بين مكنون الكشف والحجب، المقدّس واليومي والعادي، وهذا المنحى متوافر بقوة في بعض المناطق اللبنانية، وقليل جداً في المناطق ذات الطابع الإسلامي. والصورة تعكس تعايش الموضة والتدين، أو التدين المودرن إذا جاز التعبير. تجمع بين زمنَين وعصرَين وثقافتَين مختلفتَين، إذا ما قارناها بأجواء راهنة وقديمة في بلدان شرق أوسطية. تختصر زمنَين من تلك البلدان تُنشر التي صورها القديمة حيث فتظهر فتيات مودرن، وصورهن اليوم وقد لفهنّ اللباس الشرعي أو الديني والتحجيب والتزمتْ والملالي واللحى...
مدينة صوْر أو "سيدة البحار" التي شكلت مطمعاً للغزاة منذ قديم الزمان، لسبب ما، كانت على غير ما هو محيطها، على عكس مدن لبنانية يطغى عليها الطابع التقليدي. وصورة الحجاب/المايو المذكورة، تبدو عابرة، وليست مُفاجئة في السوسيولوجيا اللبنانية. فسبق أن رأينا فتيات الوشوم والموضة والسرّة العارية يرفعن أعلام "حزب الله" في مشهد وصف بالسوريالي، أو فتيات يرتدين التشادور ويرفعن علم الحزب الشيوعي اللبناني. هويات كثيرة في شخصيات بعض المواطنين اللبنانية، تتماثل مع تراكم الثقافات والأزمان في المدن اللبنانية أيضاً، التي حافظ بعضها على التنوع والتعدّد، وطغى على بعضها الآخر الطابع الإيديولوجي لجهة محدّدة.
وبالعودة إلى صوْر، فهي التي يشار إليها مراراً وتكراراً في أساطير المؤرخين القدماء على أنها أنشئت من قبل الآلهة. سجل المؤرخ اليوناني هيرودوت (حوالي 484-425/413 قبل الميلاد) زيارته إلى صور في كتابه "تاريخ"، حيث يروي كيف أخبره كهنة صور أن المدينة أسسها هرقل. صور المتوسطية، الفينيقية التي كان ملكها حيروم، الرومانية، الصليبية، المملوكية، العثمانية، اللبنانية... صور التي وصفها بعض المؤرخين بأنها "تلك المدينة العظيمة التي كانت تظهر عائمة فوق المياه كأنها ملكة ذلك البحر العظيم". وكنا في أوقات غابرة وهادئة نقصد حارتها القديمة وحاناتها، على مقربة من السوق الذي حل محل المرفأ الفينيقي الشمالي، وكان يعرف بسبب موقعه بالمرفأ الصيدوني. لا بد أن نلتقي هناك الرسام الراحل محمد شمس الدين وأصدقاءه، أو الشيوعي العتيق علي بعلبكي أو صديقه علي العبدالله. الذهاب إلى هناك يكون برفقة أيمن الأمين، في مرات لا بد من المرور على الشاطئ وتناول السمك والسباحة. دائماً، إذ ما زرنا صور نتذكر قصيدة عباس بيضون عنها:
كنتِ جزيرة وحصناً
وخاناً للمسافرين
لا يتسعُ نهاركِ للبناء
ولا يكفي ليلكِ للأحلام
لم تكن نجومكِ كبيرة ولا قمركِ لامعاً
لذا كان بحارتكِ يسقطون على السلالم
وجنودكِ يجفّون في الأبراج"
ونتذكّر نكتة الشاعر سعيد عقل الذي عاتب عباس لأنه وصف وصف صور الفينيقية بالخان.
صور الحضارات القديمة الآن تواجه الهمجية الإسرائيلية التي قصفتها من ضمن هجماتها على البلدات والمدن اللبنانية الكثيرة من عيتا الشعب إلى النبطية. اسرائيل إذ تفاوض بالنار، تريد قتل المدينة وناسها، اختارت أن تقصف صور من خارج بنك أهدافها. وفي هذا السياق بدا بعض "الفسابكة" في زمن الخيال العلمي، ما لهم للتعبير عن غضبهم، سوى العودة إلى ماضي المدينة وهم يعيشون في متخيلها التاريخي. يقولون أنها قاومت الاسكندر المقدوني، من دون الغوص في بواطن الحكايات وتكملتها كما لاحظت الفنانة ريم الجندي.
والنافل أن جيش الإسكندر فشل في البداية في الاستيلاء على المدينة، التي كانت بمثابة قاعدة ساحلية استراتيجية على البحرالمتوسط، لأنها كانت على جزيرة ولها أسوار تصل إلى البحر مباشرة. وحلّ الإسكندر هذه المعضلة بالتضييق على صور ومحاصرتها أولاً لمدة سبعة أشهر سنة 332ق.م.، ثمّ ببناء جسر ووضع أبراج حصار مع مجانيق مرتكزة على قمتها في النهاية بعدما اكتشف جنوده أنهم لا يستطيعون تمديده أكثر بسبب الهبوط الشديد تحت سطح الماء، وهو ما سمح له باختراق التحصينات.
في كتاباته، يتحدث المؤرخ الصقلي ثيودوروس (مكتبة التاريخ - المجلد السابع عشر) عن هذا الحدث قائلاً: "أمر الإسكندر بخفض الجسر المتحرك من البرج الخشبي على سور المدينة وعبره لوحده، متحدياً وضع ويأس أهالي صور، وأمر المقدونيين أن يتبعوه. ووضع نفسه في مقدمتهم، وقاتل المحاصرين بيديه وقضى على البعض بالحراب، والبعض الآخر بسيفه. ودفع غيرهم مع درعه ونزع الجرأة من قلوب خصومه، في حين، على نقطة أخرى، كانت مطرقة قد أطاحت قطعة كبيرة من جدار... دخل المقدونيون من خلال هذه الفتحة إلى المدينة، جنباً إلى جنب مع قوات الإسكندر التي اخترقت الجدران عن طريق الجسور المتحركة، واستولوا على المدينة. لكن الصوريين جمعوا كل قواتهم، وتمترسوا في الشوارع وسقطوا في هذا الصراع غير المتكافئ. هناك أكثر من 7000 جثة. وأسَر الملك النساء والأطفال لبيعهم كعبيد، وأخذ اكثر من 2000 شاب. وفي ما يتعلق بالسجناء كان هناك ما لا يقل عن 13000. هكذا كان مصير صور، مع الكثير من الشجاعة، لكن القليل من الحكمة، بعد حصار سبعة أشهر".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها