شكلٌ شبه رباعي يحط فوق خريطة مدينة صور، يعممه الجيش الإسرائيلي مع بيان وجّهه للأهالي: "عليكم الابتعاد فورًا خارج المنطقة المحددة بالأحمر والتوجه إلى شمال نهر الأوّلي". ويضم ما حدده العدو، معظم أبنية حي الرمل، الحي الأكبر في المدينة. العدو، كما الأهالي، يعرفون أن لا "عناصر لحزب الله" ولا "منشآت" ولا "وسائل قتالية" في هذه المنطقة، كما يدّعي الإسرائيليون في بيان التهجير... وهدفهم بث الرعب في مَن بقي مِن أهلها والنازحين من قرى الحدود في المدينة، وتفريغها من السكان، لذلك لم يحددوا مبنى بذاته بل المباني كلها.
تدور سيارة الدفاع المدني بميكرفونها في الشوارع والأزقة. لا يتجه الناس شمالًا كما حدد العدو في خريطته وأدرج سهمين غليظين، بل خرجوا من المنطقة المظللة بالأحمر نحو البحر الذي يزنّر المدينة وانتظروا جولة الجنون. نظروا إلى حيث سيفرغ العدو حقده. انتظروا، ترقبوا، قبل أن يعودوا لتفقد بيوتهم أو ما بقي منها.
ورغم أن العدو كان، خلال الشهر الماضي، قد ارتكب مجزرتين راح ضحيتهما مدنيون من أهل المدينة، واستهدف شقة على الكورنيش الجنوبي، وعشية جولة الجنون الأخيرة قصف مبنى "صوت الفرح"، إلا أن المدينة شكلت ملاذًا شبه آمن لمَن بقي من أهلها فيها، ولعدد كبير من أبناء قرى قضائها. ويكفي أن يضع العدو مربعًا أحمر عليها لتدخل في مرحلة جديدة للشهر الثاني على حرب تطاول يوميًا الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية.
كان يكفيه أن يضع مربّعه الأحمر ليهجّر الآلاف ويستهدف الأبنية السكنية فيسوّيها بالأرض، فهو القوي وأهل المدينة ضعفاء وبلا صوت. دقائق وتتناقل وسائل التواصل الاجتماعي مشهد الدخان يعلو من أماكن مختلفة في المدينة، يظللها، تنهار الأبنية.. تتلقف وسائل الإعلام العالمية رواية العدو وتهضمها وتتبناها، وكأن ما حل بصور مبرر وعابر، بل "طبيعي"... أليست مظللة باللون الأحمر؟! لكن لا!
كانت الأعوام الأربعة الأخيرة ثقيلة على صور، نعم. المدينة المتعبة ركبتها الأزمات واحدة تلو الأخرى، وللأزمات وقع أقسى على ناس هذه المدينة من وقعها على المناطق اللبنانية الأخرى، لأسباب لا يطول شرحها لكن شارحيها لم يسلموا يومًا. سنوات عجاف، لكن صور لم تستسلم، إذ بقيت الكلمات تنبض في أزقتها وإن بدت مرهقة.
إن كان ينبغي أن يوصف شيء ما هنا بـ"طبيعي"، فالطبيعي كان أن يعيد عباس بيضون تلاوة قصيدته "صور"، وأن يقول: "ونحنُ نتعلَّمُ الكلمات والأفكار كلّ يوم./ كنّا رمليّين حينَ أوَينا إلى الشُّطوط/ وترَكنا أنفسَنا لغاسِلي الرَّملِ،/ فَحَفّونا بالزّبد الذي اختمرَ في نسيمِ اللّيلِ،/ وخَرَجنا مِنْ بُيُوضِنا تحتَ مَوجة".
وأن يشدو قصب جورج غنيمة مواويل البنفسج والمطر برفقة "محابر الغمام ونايات الريح"، وأن تتجسد مدينته في محبوبته، حين يقول: "بعد البحر هناك المدينة صور. صور بالنسبة إلي هي المرأة التي لن أجد أجمل منها، إنها الأم والحبيبة التي ليس من امرأة أكثر قدرة منها على إغوائك، وخاصة أن فقرها هو الذي يغوي أكثر من غيره".
وأن يتناقل التلاميذ قصيدة "وعلى صور السلام" للمربي محمود شعبان و"بواكير البرعم الرملي"، حين قال: "أرجعيني يا سنيني لتلال الرمل والحرش الحبيس،/ وشجيرات البساتين التي كانت لنا نعم الجليس./ أرجعيني يا سنيني نحو تلك المشية الغارزة بلحم الرمل،/ تلسعها سياط من شموسِ"...
الطبيعي أن يلملم صخر عرب، الذي يختزن ذاكرة صور، أقاصيص المدينة ينسجها فسيفساء تجسد وجهها الحي ويرسم من "نسيم الشمال" إلى "خاتم العقيق" مرورًا بـ"عربية بنت الناس"، حبه لهذه المدينة التي لم تُرِد إلا الخير للجميع ولم تعلن إلا انتماءها إلى الوطن الجريح.
الطبيعي أن يطلق محمد طرزي صوته ليعلو فوق الميكرفون الكاتم للصوت، وأن يحظى بجائزة كتارا للرواية العربية بدورتها الأخيرة، فينتقم بكلماته للمدينة من خانقيها، يقول: "مدينتي المسيّجة بأسوار الزمن/ سجينةُ صرّافين،/ وتجّار خرافة وسماسرة للموتْ./ مدينتي امرأة/ قيل لها: كوني جميلة واصمتي،/ من ذا يقنعها/ أن أجمل ما في المرأة هو الصوت".
الطبيعي في صلابة قاسم اسطنبولي وهو يحاصر الحصار بالمسرح، يفتح الأبواب للنازحين ويقدم للأطفال أبجدية الإبداع. الطبيعي أن يستقبل المربي محمد نعمة على "رصيف الأحد" سجالات أدبية وثقافية لا تنتهي. الطبيعي أن يصدح صوت نبيل مملوك برسالة يومية تواسي المبتعدين عن المدينة قسرًا وتبلسم جراحًا وتطمئن الخائفين على المصير، وهو مشغوف بعشق صور. الطبيعي أن ينتج الباحث منير بدوي، الذي عشق صور حتى الرمق الأخير، كتابًا مرجعيًا آخر عن كتّاب المدينة وشعرائها. الطبيعي أن يستمر خليل بواب في نشر قصصه الاجتماعية اللاذعة بالعامية كاشفاً العيوب ومخاطباً الأجيال...
ذلك كله وأكثر، في المبدعين وفي أحاديث الناس على المقاهي وبين الأزقة. العدو زائل، وتهديده غبي، وإن صدّقه العالم، أما صور فباقية. فقد تخطت في السنوات العجاف ما هو أشد قسوة من تهديد أحمق، حين بقيت تقاوم على طريقتها، بحبها للحياة، بالكلمة نثراً وشعراً، باللحن والنغمة والرقصة، بخشبة المسرح ومهرجان الشارع... بحُبّ أبنائها وبناتها لها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها