الخميس 2024/10/24

آخر تحديث: 11:43 (بيروت)

محمد خضير عن عالم مغاير وجديد...الحرب ستمحو كل شيء

الخميس 2024/10/24
محمد خضير عن عالم مغاير وجديد...الحرب ستمحو كل شيء
لوحة لمروان نحلة
increase حجم الخط decrease
الحرب... إفرازٌ حتميّ لهيمنة قوى الرأسمال العالمية وصنّاع الأسلحة الجشعين وتجار اللحوم البشرية المعلّبة، لكنّها- الحرب- أيضاً مفتاح حتميّ لعالم مغاير جديد سيسكنه الأحرار من أجيال ما بعد الكارثة. لا قياس لزمن حدوث المقدّمات الجديدة لعالم الغد، لكن ثمة قياس لحوادث كارثية ستسبق إقامة أبراج السلام والحرية وتقرير المصير، وهذه الحوادث ليست مادية بالضرورة، فقد تبدو قصيدة مثل "الأسلحة والأطفال" للشاعر السياب مقدّمة مرسَلة سلفاً إلى حواسيب أجيال المستقبل، شأنها كرواية آرثر كلارك (أوديسا ٢٠٠١) المبتدئة بتصوير فجر البشرية بقصد الاتجاه أماماً نحو أوقيانوسات الفضاء الخارجي لكوكب الارض.

مئات السنين بل آلاف الفضاءات الزمنية ستفصلنا عن عالمنا الجديد، قبل أن تزول معالم أمم وبلدان ومدن ستحوّلها الحرب إلى خرائب كمدينة غزّة الفلسطينية. ستتحطّم الآلة العسكرية العنصرية لسلطة الرؤى التوراتية المتفاخرة والسوبر- بشرية الأميركية، في رؤية انعكاسية ماحقة لزمن الخروج من مصر، فيكتسب التيه "الموسويّ" امتداداً مستقبلياً يبشّر بولادة أجيال ما بعد خراب رفح وجباليا وخان يونس، مع اكتسابهم صفات رمزية وعلامات مترعة بالأمل والاستقرار على أرضهم الأولى. دورة من أطول دورات التاريخ الإنساني. وليس هذا الاستباق بأسطورة حتماً. لكن جيلنا الشائخ- البائس واليائس- لن يكون له حضور جسديّ في هذه الدورة. هذا ما نستطيع قوله بثقة واطمئنان، بغضّ النظر عمّن نكون وأين، فقد يكون مركز القول ما زال مطموراً تحت أنقاض الأبنية وركام الحجارة مع مئات الجثث.

أجل، ستمحو الحرب كلَّ شيء، لتبني بدله كلَّ شيء. وليست الأشياء غير ولاداتٍ لأشياء أخرى- رموز، نظُم، أسماء، نصوص "خروج" بديلة  لنصوص هجرةٍ غير معرَّفة بمكان وفئة وزمان- حيث يكون كلّ إنسان نبيَّ نفسه- أو في الأقلّ من طراز نبيّ جبران خليل جبران. هجرة وعودة- خروج ودخول- من أطول هجرات الإنسانية- من تلك التي تنتسب إلى "أوديسات" الحرب والطوفان غير المقيسة بزمن الموجات العولمية الفائقة الحداثة.

هذا الانعكاس القطبيّ، لعالمين قديم وجديد، نموذجيّ وغير قياسيّ، حار وبارد، هرِم متحلّل وطفولي يانع، مكتوب ومعلّق في غيب الكتابة، مرصود وحرّ من قيود اللغة والعِرق والأفكار الجامدة... هذا التحوّل الأعظم للإرادات والقوى والجاذبيات والسيطرات والنُظُم والعقائد، له ما تبرّره -الحرب- وحدها، من بين حوادث ومقدمات وتجارب سابقة. الحرب- الكلمة الأسهل بين لغات الحاضر، والأكثر تفاهة وانزواء بين كلمات المستقبل الانعكاسيّ الأعظم. هذه الكلمة المفصومة من حقل هيروشيما الأول، ستنتظم في حلقة بناء جديد للنفس البشرية المتكلّمة بلسان طفل "آرابيا" الوليد.. الطفل المنحدر من قصيدة "الأسلحة والأطفال" أو "جدارية بيروت" أو "كونشرتو القدس".

لن نُضطَّر للمرور بتحليلات فرويد النفسية للحرب العدوانية، وقبل هذا قد نُسقِط من حساب زمننا المديد- المديد جداً- خططَ سون تزو لفنّ الحرب، وقد نتجاوز عبقريات الاسكندر وأيزنهاور وستالين ورامسفيلد وشوارسكوف وأوستن وجنرالات الناتو- الأخيرين وبراعتهم في إدارة سلسلة الألعاب العسكرية على رقاع العالم؛ قد نتناسى سقوط الامبراطوريات القديمة والحديثة، معتقلات الأسرى ومحارق اليهود وقنبلة هيروشيما الذرّية، وأيضاً تصفية الثورات وأشكال المقاومة الوطنية والتحررية، ثم محو المدن الفلسطينية من الخارطة؛ قد نتجاهل ماضي الحرب التقليدية، وما تلاه من حاضر الحرب الإلكترونية، ولا نعرّج على تصعيد الخطاب الاستعماري الجديد وشحنه بلغة توسّعية، أو زحزحة الأبعاد الإقليمية وإقامة أحلاف جيو ستراتيجية، شرق أوسطية وشرق أوربية، في مقابل تعاظم القوة الصفراء النووية.. ولا نتطرّق إلى تخريب اقتصاد الدول النامية ودول ما تحت العالم الثالث، أو تسجيل الثروات باسم كارتلات عابرة للحدود والجنسيات؛ كذلك لا نذكر حملات القضاء على براعم البراءة والبداءة الثقافية والتربوية وتحريف العقائد الدينية، ثم كسر اللحن المتآلف لحناجر مموسقة بحبّ الأرض والإله والإنسان الأمميّ الأخير.. وهلمَّ جرّاً وجرّاً بعجائب هذا الزمن الأسير والكسير والمحطم والمؤجّل حتى النزع الأخير.. لن نشاهد انهيار آخر سدّ مائيّ وقطع آخر شجرة وانتزاع آخر برعم ينازع التصحّر والتلوّث والتدمير الشامل للبيئة والحياة البرّية.. قد لا نعيش حتى ينقطع حبل التاريخ القديم، وتنحلّ آخر عقدة في سيرورته وسيولة أفكاره وموسيقى أعماقه النقيّة.. لن نستمع لآخر كلمة ينطقها إنسان على حافة الهاوية- الحرب- وليست حافة أخرى غيرها ولا كلمة سواها في معجم هذه الدورة المجنونة من الزمن اللولبي المديد... المديد جداً بدون مقياس.. قد يحدث كلّ هذا الانجراف السريع أو المتدرّج، المخطّط أو العشوائي.. إلا أننا لن نبلغ سطرَ النهاية البعيد، إذ هناك من يأتي بعد مئات السنين فيشهد النهاية الحقيقية لهذا الكابوس الطويل الجاثم بين تلك المقدّمات..

إذا كانت مراكز القوى العولمية، مصارفُ تمويل الحروب، ترسانةُ الحصون السّداسية والقلاع العائمة في المحيطات، الأقمارُ الصناعية والحواسيب فائقة الذكاء، الرجالُ والنساء المعدَّلون جينياً والمحصَّنون بيولوجياً، استوديوهاتُ السينما العملاقة وفضائيات النقل التلفزيوني، مراكزُ البحوث المعسكرة... إذا كانت هذه جميعها ترصد ارتفاع منسوب الحرب وتزيد في أوارها، فإنّ ما ترصده وتراقبه وتخطِّط له بصرامة سيمدّد عمرَ البشرية ويعلو بها إلى أعلى القمم غير المنظورة، مثل كتاب بملايين الصفحات، تبدو الجغرافيات المشتعلة أسفله مجتمعةً في كلمة واحدة، متفرّعة عن الجحيم. ستشتعل الكلمة بكامل شحنتها الذاتية ثم تنطفئ في قرارها السحيق. وإذا كانت مراكز الحرب قد جمعت إلى جانب الأدلّة الفتّاكة لأنواع الأسلحة مفردات تناسلَت منذ الحادثة الأولى في تأويل فكرة الموت والقتل والكراهية بين أفراد عائلة "بُناة البشر"، فالحرب- الجحيم- الخروج والتيه الجديد ستستفرغ آخر كلمةٍ بُنيت على تلك القرابة بين الأعراق المتنازعة على بقعة مسكونة أو صحراء تكنز الثروة والمال. الشجاعة- الخضوع- المحو العِرقي، سلسلة مفردات متتالية في كِتاب النزاع القرابيّ- والاحترابيّ على حدّ سواء، وهو سيتذرّى هباء منثوراً. فكرةُ الشرّ نفسها التي ظلّت تنمو في أحشاء الغريزة القرابية- الحربية والتسلطية لأقوام متآخية، ستتفتّت رماداً. الكذب- الزيف- الخذلان، هذا ما سيسخر منه قارئُ القمة المتعالية من كتاب الجحيم القرابيّ. القارئ الأخير- المتمدّد على جبال الهملايا في قصيدة لرابندرانت طاغور- القارئ الحجريّ العملاق الذي يراقب دورةَ الزمن المحترقة تحت عينيه. ومثله كان ميثولوجيو العرب قبل الاسلام- سطيح ولقمان وأحيقار- يهمهمون في قراءاتهم لكتاب شبيه بكتاب هملايا طاغور. قد لا تأتي كلمة رديفة مثل كلمة -الحرب- الحقيرة في أمثولاتهم التفسيرية لبلاء الإنسان وصراعه مع قدره الغامض، إلا أنّ أبصارهم كانت تحرث الرمال وترتاع لما تراه زرقاوات اليمامة من زحف الكلمات المرعِدة بالموت. ومثلهم كان عرّافو الشّعر: لبيد وابن الصمّة وامرؤ القيس يهجسون لغة الرمال العربية، ويتنبأون بدورة الزمان البعيدة المدى؛ ولربما التقوا بشخص عائد من رحلة في المستقبل البعيد- أوديسيوس صحراويّ، اتّحدَتْ في أعماقه أغاني البحر وأضغاث الصحراء التي ألهمَت امرأ القيس أبياته الشهيرة في الحرب.

وبعد قرون، سيلتقي رحّالة من عصر الاكتشاف الاستعماريّ إعرابياً يتهجّد بأبيات امرئ القيس فينقل تأثيرها إلى ألدوس هكسلي- أحد عرّافي العصر الصناعيّ والإلكترونيّ- ليؤلّف روايته النبوئية (عالم طريف وشجاع). ثم ستكرّ السّنون فيلتقف صحافيُّ الأسوشيتد برس كلمات فلسطينيّ من تحت الأنقاض، كلمات غامضة عن رحلة مهاجر "تحت الشمس" هجسَ بها غسان كنفاني في لحظة احتضار مماثلة. كلمات متواترة سترسم أجواء اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية بطائرات مسيَّرة- هذا حين تنفض كتُبُ الحرب- بأنواعها واختلاف أزمنتها- خططاً صارت ألواحاً بائدة في متاحف الكوكب الجديد.

يوماً ما ستتوقّف كتُب الحرب عن الاستنباء أو الاسترجاع، فقد نفدت كلمات الموت المقنَّن بآلات بشرية. لن يعود في قدرة إنسان الجزيرة العربية استعمال رمحه وسيفه وفرسه في حملة غزو أو اقتتال قبَليّ جرى تصوّرُها في أنشودة أو نصّ افتخاريّ. كذلك لا يعود معنىً لفكرة التوزيع الجغرافي المفروض عِرقياً ولغوياً في أي خطّة وسطى أو قريبة من مركز القول عن عالم جديد ومغاير.

الأرضُ التي امتلأت بالأجداث كانت لا تزال تعاني ألماً ناخزاً في أعماقها. الدّمُ جرى بحيرات ثم نشَف. المرأةُ الفلسطينية التي سُحبت من تحت الأنقاض تَرَكت في مكانها قبراً فضائياً يتّسع لمدينة كاملة من نصوص الموتى وآثارهم، لا أحد من مواطني المستقبل يجرؤ على لفظ كلمة واحدة منها. الأسرى نسوا لغة أسْرِهم. الأطفال المستقبليون شبعوا من طعم اليورانيوم المعبّأ في حبّات الكمأة التي نَمَت كالجبال. زرقاوات اليمامة تكاثرنَ كالروبوتات المنصوبة في أحلامهنّ عن حروب جرَت قبل آلاف السنين. الشعراء أيضاً الذين نسخوا قصيدة "الأسلحة والأطفال" هم أكثر ممّا يمكن إحصاؤهم. الهواء المعدنيّ يمطر أغانيَ تشجو بها ملائكة يكادون يشتبهون بقيامتهم الموعودة. آنذاك- أيّتها الآلهة الحمقى لأرض الطوفان- لن يبجّلكم أو يتذكّركم أحدٌ بآيةٍ. كتُبُ الأطفال مُحيت منها آياتُ الحرب- لا يأساً أو نسياناً- ولكن لأنّ التجّار تعبوا من استيراد الأسلحة البلاستيكية. هناك حمقى، نعم، من جنس امرئ القيس. لكن هؤلاء بلا لسان. عالم خالٍ من "معلّقات" شعرية على طبقات الأبراج.

(*) مدونة نشرها القاصّ العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها