هي المصادفة بالطبع أن تولد ظاهرة الهيب هوب كجماعة فنية منذ نصف قرن، في الوقت نفسه لدخول سوريا النفق الطويل الذي لم تخرج منه حتى الآن. ومثل مصادفات كثيرة، تكفي المرء هنيهات كي يستوعب ما يراه أو يحدث أمامه، قبل أن يندمج ويمضي في السياق الذي تفرضه اللحظة كأي شيء عادي.
لكن شيئاً ما كان يمنع السوريين دائماً من أن يعيشوا مثل غيرهم من الشعوب، هذه التقاطعات الفنية الرهيبة، التي كانت تولد في مكان ما على الكوكب ثم تعمّ فيه. يمكن توصيفه بالإجراء القسري مسبق الصنع، أو المنع الرقابي، أو التحكم الأيديولوجي، تشترك في صنعه السلطات كلها، ما يؤدي إلى توسيع المسافة بين المتلقين وبين الظاهرة الفنية، التي تتنامى وتتطوّر بعيداً من البلاد.
قبل هذا، كانت سوريا تعيش في وسط العالم. لم تكن جنّة أرضية، كما يصورها البعض، لكنها لم تكن بقعة من جهنم! فمنذ الاستقلال، وحتى أوقات متأخرة من ستينيات القرن الماضي، كانت الطرق مفتوحة أمام المنتجات الفنية الغربية وظواهرها المؤثرة، لتصل إلى هواة النوع في أي مدينة سورية، والذين كانت أعدادهم تتناقص بشكل مضطرد مع توسع سيطرة الدولة البعثية على كافة مناحي الحياة، وخلقها آليات رقابية متعددة موزعة على المؤسسات.
(عبود حداد أختفى على حاجز داعشي)
ففضلاً عن الرقابة الأيديولوجية القومية الاشتراكية المسيطرة، التي صارت تتحكم بالإعلام المرئي والمسموع، وبالمطبوعات، ثمة رقابة إيمانية تفرضها سلطة المؤسسات الدينية، تبدأ من الجامع والكنيسة، وتتعسف في تطبيقها، بحجة أنّ المجتمعات التي تتحكم في وعيها تتعرض لغزو يهدف إلى تدميرها أو تفتيتها!
وثمة رقابة أيديولوجية أيضاً تتبع للأحزاب، المتحالفة مع سلطة الأسد أو المعارضة لها، وترى أن عليها حماية عقول الرفاق وتحصين عقول الأبناء، لهذا كان عليها أن تنشئ منظمات شبابية تتوازى مع اتحاد شبيبة الثورة التابع لحزب البعث، وتتبع أنشطة المراهقين، والقائمون عليها في كل منطقيات الحزب يعظونهم ويهدونهم إلى ما يجب أن يقرأوه من الأشعار والروايات، وما يُفضّل استماعهم إليه من الأنواع الموسيقية والأغاني.
وسط هذا كله، لا تغيب الرقابة العائلية، لكنها بالتأكيد ستلعب دوراً في ترك الشباب يفعلون ما يريدون في خلواتهم، أو محاصرتهم أيضاً فتصبح بدورها تحصيل حاصل!
أجيال سورية مرت ولم تدرِ بأن ثمة موسيقى مختلفة تلعبها أصابع الشباب على الآلات الوترية، أو تطرقها على تلك الإيقاعية، وأن هناك أيضاً فتية يقومون برسم الأشكال الفنية الغرائبية، ويطوون حروف الكلمات على جدران الأبنية في شوارع المدن، وعلى صفيح عربات نقل الوقود، في القطارات التي تعبر المدن، فتمر في أنفاق متباينة الطول، لكنها لن تنجو من أن تكون مساحات متاحة للرسم والصراخ عبر الألوان!
لكنها الأجيال ذاتها التي ستبادر، بموازاة ما يجري في الضفاف الأخرى من الكوكب، لإنشاء المنظمات الماركسية اللينينية والماوية والتروتسكية فيما كان فيه الشيخ مروان حديد، يؤسس في عقول مجاهديه اللبنات الأولى لمتاريس "ثورة" الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين!
كانت نخبة النخبة من مثقفي دمشق، تعرف الطريق إلى متجر حواصلي في شارع الحمراء، لتشتري الكاسيتات الجديدة من أي نوع موسيقي، والقلة ذاتها كانت تعرف كيف تنعطف قليلاً إلى اليسار في الشعلان لتصل إلى محل جوني سالم لتستأجر من عنده الأفلام السينمائية الجديدة، بعدما تحولت تجربة النادي السينمائي إلى مساحة صراع بين أيديولوجيي السلطة والأحزاب، وبين المثقفين المغايرين، أو أولئك الذين لا يريدون من الفن أيديولوجياته بل خلاصته.
كان عقد الثمانينيات كارثة سوريا المعاصرة. فبعد سنواته الدموية الأولى، حل الظلام على كل المشاهد، وسط التهديد الدائم بالاعتقال لأي شخص ينطق بالمختلف، فحجة الانتماء للإخوان حاضرة لدى الأجهزة الأمنية، وبدرجة أقل كان يمكن للانتساب أو العلاقة أو حتى قراءة جريدة الحزب الشيوعي – المكتب السياسي أو حزب العمل الشيوعي وغيرهما، أن يودي بالمتهم إلى العقاب المتفاوت بحسب الذنب المستخلص كاعتراف بعد جلسات استجواب دموية.
وفي نهاية هذه العشرية وبعد سقوط نظام تشاوشيسكو الروماني، صديق حافظ الأسد وحليفه، سيرى طلاب الجامعة الذاهبون بلباسهم الموحد الأزرق السماوي، عبارات بخط أحمر، مكتوبة بسرعة على الجدران تقول: اليوم تشاوشيسكو وغداً الأسد!
لم يكن الخط فنياً بما يرقى لتسميته بالغرافيتي، بل كان قبيحاً بسبب خوف من خَطَّهُ من أن تلتقطه دورية أمنية عابرة. لكن يمكن الجزم بأن ثورة فنية من نوع خاص كانت قد بدأت في تلك اللحظة، ستلتقط بنبضها البسيط اضطراب المعسكر الشيوعي بعد تحولات الغلاسنوست والبيرويسترويكا الروسيتين، وانهيار الأنظمة المرتبطة بموسكو، لتبدأ بالتعاطي وبشكل مختلف مع ما فاتها من تحولات حول العالم، أو ما اضطرت لإهماله تحت سياط الجَلد الأيديولوجي المقيت.
ثم شهد عقد التسعينيات جموداً إدارياً عاماً بسبب مرض حافظ الأسد، وتراخياً عاماً سمح بمعرفة السوريين لظواهر فنية كثيرة، وستلعب في هذا الفضاء المنصات التعليمية ككلية الفنون الجميلة والمعهد العالي للفنون المسرحية وأيضاً المعهد العالي للموسيقى، وفضاءات أخرى حيث حضرت التجارب الفنية بشكل هامشي بوصفها حارة خلفية يحلو للبعض أن يسترق فيها دقائق ليدخن لفافة تبغ أو حشيش ويسمع ما يريد ويحب.
فعلياً لم يكن هناك من يعمل على نقل ظاهرة الهيب هوب ككل إلى واقعه. ففنون غناء الراب، والغرافيتي، والرقص الإيقاعي، لم تمر من أبواب عريضة مفتوحة لتصبح موضة، بل تسربت شيئاً فشيئاً، ليس إلى سوريا فقط بل إلى بلدان المنطقة كلها. لكنها في البقاع المحكومة بالرقابة والسيطرة، لن تتمكن من تصبح أداة تعبيرية أو حتى منتجاً للاستمتاع، بل سيعاني كل من يقترب منها من سوء الفهم والاتهام بتقليد الغرب أو التعرض لغزوه الثقافي.
ورغم تحولات الألفية الجديدة، وثورة الاتصالات، والعولمة المتفجرة بآثارها على الجميع، لن يكون من الممكن لأحد أن يسمع عبر إحدى الإذاعات الخاصة التي باتت منتشرة، نوعه الموسيقي المفضل، فلا وجود للتخصص، بل هناك سوق يجب أن تعرض على واجهات متاجره البضاعة الرائجة!
وفي الوقت نفسه، سيُفرض على مستمعي نوع موسيقي موازٍ، هو الميتال، أن يكونوا موضع شك أزلي بأنهم من "عبدة الشيطان"، ولن يكون في إمكان أحد أن يمسك ببخاخات الألوان أمام الجدران المتسخة ليكتب شيئاً عليها، سوى التحذيرات من رمي الزبالة أو القيام بالأفعال المنكرة.
وفي زاوية هامشية سيلتقط الكاتب الشاب، عدنان الزراعي، فكرة رهيبة عن "الرجل البخاخ" الذي يقوم بكتابة الشعارات على الجدران، ويحولها إلى لوحة لمسلسل "بقعة ضوء" الذي تسامحت الرقابة التلفزيونية مع مَشاهده، طالما أن المالك الفعلي للشركة المنتجة أي سوريا الدولية –كما يقال- هو ماهر الأسد!
لكن، في المرحلة ذاتها، ستقوم الأجهزة الأمنية في محافظات عديدة، بالتقاط الشباب الجامعيين "الميتالجية" الذين يحضرون حفلات الميتال السرية، وتطلق سراحهم بعد جلسات تعذيب خفيفة وتعنيف أيديولوجي سميك، مع مصادرة ما تحتويه خزائنهم من تيشرتات السوداء مطبوعة بشعارات ورموز الصنف الموسيقي ذاته.
وفي خضم الثورة السورية الديموقراطية السلمية المدنية، التي بدأت بسبب مباشر هو قيام "شلة" من الأطفال البخاخين بكتابة الشعارات ضد الأسد على جدران مدرستهم في درعا، وأدت إلى تفجير كل مخافر الرقابة على العقول والفنون والثقافة لدى شرائح وفئات مجتمعية كثيرة، أنتجت ظواهر فنية مدهشة كغرافيتي حيطان سراقب وغيرها، ولوحات كفرنبل الشهيرة، وباقة موسيقية متعددة ومختلفة تبدأ بأناشيد قاشوش حماه، ولا تنتهي بأغاني الساروت ورابرجية ثوريين ينتشرون حول العالم.
ستعتقل الأجهزة الأمنية عدنان الزراعي بسبب نشاطه المناوئ للنظام، وسيختفي أثره منذ ذلك الوقت حتى الآن. وبعد عام، وأثناء عبور الناشط والمصور الفوتوغرافي عبد القادر حداد حاجزاً لتنظيم الدولة في مدينة سراقب، سيشتبك لفظياً مع أحد "المجاهدين" بسبب ارتدائه كنزة تحتوي شعارات موسيقية ميتالجية، وسينتهي المشهد باعتقال (تشويل) عبود واختفائه حتى اللحظة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها