كان لهذا الثالوث معبد كبير شُيّد على هضبة كابيتولين، أعلى هضبات روما السبع، وجرى تكريسه في 509 قبل الميلاد، بحسب المؤرخ الشهير تيتوس ليفيوس، إثر هزيمة آخر الملوك الإتروسكانيين، في السنة الأولى من عهد الجمهورية. ومن هنا شاعت صورة هذا الثالوث، وتحوّلت إلى علامة من علامات عهد الجهورية القديمة، وظهرت في ناحيات بعيدة من روما، منها على سبيل المثال بومبيي بالقرب من خليج نابولي، وأليزيا في شمال شرقي فرنسا، وكيوكول التي تُعرف اليوم بجميلة في شمال شرقي الجزائر. تتبنّى هذه الصورة بشكل أساسي نموذجاً واحداً تتبدّل تفاصيله بين أثر وآخر، وفي هذا النموذج الجامع، يحتلّ جوبيتر وسط التأليف، وتظهر مينرفا عن يمينه، وجونو عن يساره.
جوبيتر، كما يعني اسمه، "أب السماء"، وهو في العالم الروماني وريث زيوس، سيّد الآلهة عند الإغريق، وتكمن قوّته في حكمه لقوى الطبيعة الرهيبة، ومنها الرعد والبرق والسماء الشاسعة. تربّع زيوس على عرش جبل الأولمبيوس حيث تقاسم السلطة مع أخويه بوسيدون وهاديس، فحصل زيوس على السماء والهواء، بينما حصل بوسيدون على المياه، وهاديس على عالم الموتى. وفي الرواية الرومانية المقابلة، كان جوبيتير أخاً لنيبتون وبلوتو، وتقاسم معهما السلطة، فحكم كل واحد من هؤلاء الثلاثة عالمًا من عوالم الكون الثلاثة: السماء، والماء، والعالم السفلي. أما جونو، فهي إحدى شقيقاته، كما إنها إحدى زوجاته، وأكثرهنّ قوّة وأشدّهن بأساً، وهي وريثة هيرا الإغريقية، وقد أدّت الدور نفسه الذي أدّته هيرا في العالم اليوناني القديم. كانت جونو شفيعة الزوجات والأمّهات، وسُمّيت "جونو لوسينا"، أي جونو التي تقود إلى النور، كما سُمّيت "جونو مونيتا" أي جونو التي تقدّم النصح. في المقابل، كانت مينرفا إحدى بنات جوبيتر، وهي ربّة العقل والحكمة والمهارات والفنون والحرف اليدوية، وقد اندمجت باكراً بأثينا الإغريقية واتّخذت صفاتها، كما استعادت دورها في الكثير من الروايات، فبات من الصعب التمييز بينهما.
في معرض "روما الجمهورية"، تحضر قطعة تعيد رسم المنحوتة الأولى لثالوث كابتولين، من خلال الأجزاء القليلة التي بقيت من هذا النصب، وتعتمد هذه الاستعادة على أحدث التقنيات المبتكرة. يجلس جوبيتر في الوسط، مرتدياً عباءة تكشف عن صدره العاري، حاملاً بيده اليسرى عصاً طويلة. عن يساره تجلس جونو، مرتدية ثوبا تقليديا، يعلوه معطف يغطّي أعلى الرأس وينسدل عند حدود القدمين. وعن يمينه تجلس مينرفا، حاملة بيدها اليمنى عصا مشابهة لعصاه، معتمرة خوذة كبيرة، وهي الخوذة التي تميّزت بها أثينا. بحسب الرواية المتناقلة، قيل لزيوس بأن زوجته المدعوّة ميتيس، وكانت حاملا منه، سوف تلد له ولداً يفوقه قوّةً، فابتلع زيوس هذه الزوجة ليحول دون تحقيق النبوءة، وشعر للتوّ بصداع شديد، فضربه إله الحدادة هيفايستوس بفأسه على رأسه، وللحال خرجت منه أثينا بكامل لباسها تصرخ صرخات الحرب. وفي الرواية الرومانية الموازية، وُلدت مينرفا من جبين جوبيتر، كاملة النمو، ومرتدية الدروع.
في 1992، تمّ العثور على تمثال لهذا الثالوث بين أطلال قصر أثري في حديقة عامة في مقاطعة لازيو، ويُعتبر هذا النصب من أقدم نسخ الثالوث وأكملها. يجلس جوبيتر وجونو ومينرفا على عرش واحد له ظهر عريض مشترك، وتحضر عند أرجلهم ثلاث طيور تمثّل رموزاً لهم. يرافق النسر جوبيتر، وترافق البومة مينرفا، وهذا الرمزان يعودان إلى الميراث الاغريقي.
تتبدل تسميات الرموز، ففي العصر الروماني تصير الأوزة مينرفا، وهذا العنصر ويشير إلى رواية تقول بأن البرابرة الغال أغاروا على روما في 390 قبل الميلاد، وعجزوا عن الوصول إلى هضبة كابيتولين، وذلك بفضل الأوز الذي خرج باكراً لينبّه السكان بهجوم الغال المباغت، وكانت مينرفا خلف هذا التنبيه، وهذا ما جعل منها حامية روما.
من الصور العديدة التي تمثّل هذا الثالوث، يبرز لوح حجري من نتاج القرن الثاني، محفوظ في متحف كابوا في مقاطعة كامبانيا، جنوب إيطاليا. على هذا اللوح، يظهر الثالوث في الوسط حيث يجلس جوبيتر على عرشه التقليدي بين إلهتين تقفان منصبتين بثبات. تحضر مينرفا عن يمين سيد الآلهة، وتحلّ استثنائيا الإلهة ديانا في المكان الذي تشغله عادة جونو، وديانا هي وريثة أرتيميس، ابنة زيوس، وتُعرف بلباسها الذي يشير إلى دورها كصيادة، وهو اللباس الذي تظهر فيه على هذا الحجر.
عن يمين مينرفا، يحضر عامل بنّاء، ومن خلف هذا البنّاء تحضر عجلة دائرية كبيرة يقوم بتسييرها عاملان، وهذه الصورة مستعارة من كتاب "المعمار" الموسوعي الذي وضعه ماركو فيتروفيو في القرن الأول قبل الميلاد. وعن يسار ديانا، يقف رجل يقدم البخور بيده اليمنى، حاملاً بيده اليسرى ما يُعرف بقرن الوفرة والخصوبة، وهو وعاء على شكل قرن، ويرمز إلى البحبوحة. مقابل هذا الرجل، تقف أفعى كبيرة، وهذه الأفعى معروفة في قاموس الفن الروماني، وهي الأفعى الزاجرة، ويهدف حضورها إلى درء الأذى والشرّ والحسد.
يختزل هذا اللوح روحية روما وفكرها. تتمّ أعمال البناء والتشييد في ظل ورعاية الآلهة وسيّدها جوبيتر، كما يظهر في المشهد المستوحى من مبادئ فيتروفيو، ولا تكتمل هذه الأعمال من دون تأدية فروض الصلاة والعبادة، كما يظهر في مشهد تقدمة البخور في الطرف المقابل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها