الخميس 2023/04/06

آخر تحديث: 17:53 (بيروت)

ذكريات أسدية...موت مَن كان يُهتف له "إلى الأبد"! (5)

الخميس 2023/04/06
ذكريات أسدية...موت مَن كان يُهتف له "إلى الأبد"! (5)
يوم جنازة حافظ الأسد (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بينما كنا نتغير، والعالم من حولنا يتغير، كان نظام الأسد يظن أن سوريا لا يمكن أن تتغير، وأن أهلها يشكرون ربهم على وجوده. وبينما نحن على هذه الحال، خرج علينا في 10 حزيران 2000، فجأة ومن دون سابق، إنذار عبر شاشة التلفزيون السوري. مروان شيخو، أحد وعّاظ الأسد، ينعي حافظ الأسد وهو يشهق ويبكي.

مات مَن كان يُهتف له "إلى الأبد"! سادت بين السوريين مشاعر مختلفة ومختلطة حيال موته، وكانت في العلن غير ما هي في السر. ففي العلن، غرقت سوريا وأهلها في الحزن، منهم من حزن عليه وبكاه حقاً؛ ومنهم خوفاً؛ والكثير منهم نفاقاً، وظهرت من هؤلاء مظاهر عجيبة غريبة في تعبيرهم عن حزنهم وولائهم لسيدهم ولخليفته. أما في السر، فلم تكن تلك حال غالبية السوريين الذين عاشوا الخوف والظلم والقلّة والتمييز والقهر، فكيف بالضحايا ممن سجنهم، أو قُتل محبيهم، أو غُيّبوا، بالإضافة إلى الذين أُجبروا على العيش في المنافي بعيدين عن وطنهم.

لم يكن الأسد قبل موته المفاجئ يظهر كثيراً، حتى أنه امتنع العام 1998 عن حضور الجلسة الافتتاحية لمجلس الشعب بمناسبة إعادة "انتخابة" للمرة الخامسة رئيساً، بسبب وضعه الصحي المتدهور الذي لم نكن نعرف شيئاً عنه، لنكتشف لاحقاً أن هناك تقارير أجنبية كانت تتحدّث عن مرضه. كانت كل حكومات العالم تعلم بمرض "رئيسنا" إلا نحن السوريين. حتى أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد تأكدت من مرضه وقتها من عيّنة لبَوله حصلت عليها عندما حضر جنازة الملك حسين في الأردن كما ذكرت تقارير صحافية. وبناء على ذلك نصحت الحكومة الإسرائيلية بمحاولة الإسراع في عقد اتفاق سلام معه قبل رحيله، بما يضمن تحقيق مكاسب لإسرائيل.

كان الأسد قبل مرضه يدير الأمور من بعيد، وقلما كان يزور مناطق البلاد كما يفعل الرؤساء في الدول الأخرى، خصوصاً بعد محاولة اغتياله العام 1980. وهذا ما جعل الصحافي البريطاني المقرّب منه، باتريك سيل، يقول إن الأسد كان يدير البلد عبر الهاتف، حتى أن وزراءه وأتباعه يرونه صوتاً بلا جسد، يُسمع من الهاتف الذي كان يستخدمه لإصدار تعليماته.

لم يكن صحيحاً ما أظهره الإعلام الرسمي من موت الأسد المفاجئ، لأنه كان يعاني مشاكل صحية من سنوات طويلة وحالته تتدهور شيئاً فشيئاً. لكن مَن حوله كانوا يأملون أن يحيا أكثر، ليصل ولو شكلياً الوريث إلى السن والرُتب العسكرية والحزبية المطلوبة في قوانين سوريا التي وضعها الأسد بنفسه. وكانت الإجراءات –الشكلية- لتسريع خطوات ابنه نحو الوراثة تسير بشكل متسارع، ومنها تحديد موعد انعقاد المؤتمر القطري السابع عشر للحزب بعد آخر مؤتمر له قبل 15 سنة. فقد كان يجب تعيين بشار عضواً من قيادات الحزب من أجل أن يؤسس بشكل رسمي موقعه في القيادة، لكن الأسد توفي 10 حزيران 2000، أي قبل انعقاد المؤتمر بسبعة أيام. ومع ذلك تمَّ للأسد ما أراد، رغم موته، فرجاله المنتفعون من حكمه وعصبته الطائفية حرصوا على تنفيذ ما أراد بعد موته.



كان الأسد وعُصبته يعملون طوال سنوات حياته الأخيرة لضمان وراثة ابنه له، وهو ما كان، وبذلك يكون الأسد قد تحكم بمصائرنا حياً وميتاً. أتباعه أو جماعته، لا أدري ما الكلمة المناسبة لوصفهم، لكن من المؤكد أنها ليست إحدى الكلمات المتعارف عليها من قبيل: حكومة، حزب، رجال دولة...! المهم؛ حل عندهم بشار الأسد مكان والده، واستبدلوا عبارة/شعار "قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد"، بعبارة "نهج الأسد باق إلى الأبد" التي لمحتُها للمرة الأولى على واجهة إحدى الشركات العامة في منطقة العباسيين بدمشق، ووقفتُ أمامها طويلاً، رغم أنني كنت أظنها كلاماً فارغاً، كالعبارات والشعارات الكثيرة التي تملأ الجدران: الصمود والتصدي والاشتراكية ووو..، التي فقدت معناها في دولة الأسد. أدركت معناها عندما لم يتغير شيء في البلاد زمن بشار الذي اتبع طريقة أبيه في حكم البلاد والعباد، على الرغم من أن البعض تمنى أن يكون مختلفاً عن أبيه لأنه عاش في بريطانيا ورأى كيف تكون إدارة الدولة والحكومة والشعب. ليكتشف السوريون أن نهج الأسد باقٍ رغم موته. ولاحقاً، بعد إندلاع الثورة السورية 2011، سيظهر لمن سيُكتب له عُمر، أن الإبن فاق أباه.

ولنعد إلى خبر موت الأسد الذي نعاه مروان شيخو، طوال نحو خمس دقائق عبر شاشة التلفزيون الرسمي، ثم ليعلن شيخو نفسه مباشرة ومن دون أي فاصل، الانتقال إلى قاعة مجلس الشعب. ليظهر المجلس مجتمعاً يغص بأعضائه. وشاهد الشعب السوري، بنقل مباشر، ملهاة تعديل الدستور وتولي بشار السلطة، إذ بدأ رئيس المجلس عبد القادر قدورة، بتمجيد الأسد، ثم أعلن استلامه اقتراحاً من ثلث أعضاء مجلس الشعب بتعديل المادة 83 من الدستور، وطلب موافقة الأعضاء -الذين كانوا يشهقون ويبكون- على إدراج الاقتراح في جدول أعمال جلسة المجلس ذلك اليوم، ثم سألهم "هل موافقون"، ليجيب بنفسه بعد ثانيتن "إجماع".

بينما كان الحال هكذا، لا أتذكر كيف عَلِمتُ، خطأً، أن هناك في مجلس الشعب مَن يعارض تولي الأسد الابن السلطة، فذهبت ماشياً إلى الجامعة نظراً لتوقف المواصلات، وفي الطريق كان الجيش والمخابرات في كل مكان، وفي طريقي مررتُ بساحة الأمويين التي كانت تجوبها سيارات تحمل شباناً قيل إنهم من حي "المزة 86" يحملون صور أسدَين بدلاً من أسد واحد. وصلتُ كلية الآداب على أمل أن أجد بعض الأصدقاء للذهاب إلى مجلس الشعب لمؤازرة النواب المفترضين الرافضين لتوريث السلطة، لكن ربنا ستر أنه لم يكن هناك أحد ليشارك في هذا الجنون.

شاهدتُ موكب جنازة الأسد يمرّ في أوتوستراد المزة الذي اصطف الناس على جانبيه. مرّ الموكب وسط النحيب والبكاء ومبالغات المنافقين، وأنا بكيتُ أيضاً، لكن على نفسي لأننا سلعة تنتقل مُلكيتها. كان كابوساً رهيباً. فأنا الذي ولدت والأسد الأب يحكم سوريا، وعشت 29 عاماً تحت حكمه، كلها شقاء وخوف وقِلّة، وجدتُ أني سأكمل ربما بقية حياتي بالطريقة نفسها تحت حكم ابنه الذي ورِث سوريا بكل بساطة، بل تمَّ من أجله أسرع تعديل دستوري في العالم، حين عُدلت المادة (83) التي تنص أن يكون سن الرئيس 40 سنةً، فأصبح المطلوب 34 سنة، سن بشار وقتها. ورث كل مناصب أبيه الكثيرة دفعةً واحدة. ففي اليوم التالي لوفاة الأب، أي في 11 حزيران 2000، عُين بشار قائداً عاماً للجيش بعدما قفز خلال خمس سنوات من رتبة نقيب إلى رتبة فريق، أعلى رتبة في الجيش السوري وكانت لوالده. كما عُيّن في 27 حزيران 2000 أميناً قطرياً لحزب البعث العربي الاشتراكي.

وانتهت الملهاة بإعلان فوزه باستفتاء شعبي في 1 تموز 2000 رئيساً للجمهورية بنسبة 97,29%. استمر الكابوس بعدما أصبح بشار الأسد مكان ابيه، وتحول شعار "قائدنا إلى الأبد/ الأمين حافظ الأسد" إلى شعار "نهج الأسد باق إلى الأبد" الذي سينتفض عليه السوريون العام 2011 في الثورة الأصعب بين ثورات الربيع العربي، وليرفع مؤيدو الأسد في وجوهنا شعاراتهم العدمية "الأسد أو لا أحد" و"الأسد أو نحرق البلد". والآن وقد أحرقوا البلد وشردونا في الأرض وما زال الأسد في دمشق، هل نيأس؟ الجواب: لا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها