ومع ولادة دولة لبنان الكبير وُلد نوع جديد من الصحافة، يدور موضوعه حول السياسة المحلية وأخبار النواب والوزراء، ويميل كتّابها إلى الانتقادات الساخرة، وأسرار الصالونات السياسية. وكانت الصحافة تتقدم مع تبلور السياسات المحلية والانقسامات بين دستوريين وكتلويين، وبين موالين ومعارضين.
ومع بداية الستينات وبفضل حرية الرأي والقول بالمقارنة مع الدول العربية المحيطة أصبح الطلب على الصحافة اللبنانية عربيًا، وإزاء الانقسامات العربية أصبحت صحف بيروت تعبّر عن سياسة هذه الدولة أو تلك، فصارت الصحافة اللبنانية صحافة عربية، يتابعها يوميًا الرؤساء والحكام ليرصدوا من خلالها الأخبار والمواقف والآراء.
إلا أن الصحافة اللبنانية عكست قبل ذلك الحياة اللبنانية والانفتاح الاجتماعي والتنوّع السياسي والعقائدي والثقافي في تلك المرحلة، وازدهرت المجلات الأسبوعية مثل الحوادث والصياد والأسبوع العربي إلى جانب المجلات الفنية مثل الشبكة والنجوم وغيرها.
كانت أسباب ازدهار الصحافة في الستينات منوّعة، يرجع أولها إلى تنوع الحياة اللبنانية الثقافي والسياسي والعقائدي، وإلى كون الرخاء الذي عرفه لبنان في تلك الفترة يحتاج إلى أدوات إعلامية تعبّر عنه، بل إن الصحافة كانت تجد مصدرًا هامًا من تمويلها من الإعلانات التجارية التي تعكس النمو الاقتصادي في لبنان. والسبب الثاني يرجع إلى الانقسامات العربية وخصوصًا بعد عام 1962، والصراع المصري السعودي إثر حرب اليمن، وبعد الانقلابات العسكرية 1963 في سوريا والعراق. أما السبب الثالث يكمن في القارئ اللبناني، فقد أصبحت قراءة الصحف في تلك الآونة جزءًا من حياة اللبناني العصري، الذي تلبي الجريدة اليومية حشريته للمعرفة. وقد كانت الصحافة آنذاك تقدّم مادة متوازنة من الأخبار المحلية والعربية والدولية أخبار الثقافة والرياضة والاقتصاد والمنوعات، خصوصًا أن لبنان عرف آنذاك رجالاً موهوبين أمثال غسان تويني في النهار وسعيد فريحة في الأنوار وكامل مروة في الحياة وسليم اللوزي في الحوادث وكان هؤلاء مهنيين يتملكهم الشغف بهذه المهنة.
وقد التقط هؤلاء التقنيات الحديثة وأسرعوا للاستحواذ عليها، من صف الأحرف اليدوي إلى الصف الآلي مع "الانترتيب" ومن "التيبو" إلى طباعة "الأوفست". كل ذلك سمح بزيادة عدد صفحات الجريدة اليومية. وكان الطلب على الصحيفة قد أخرج الصحافي من وراء الطاولة إلى ارتياد المسافات البعيدة، فكان لبعض الصحف كتّابها الذين يغطّون الأخبار في مواقعها وينتقلون إلى حيث الحدث.
وكانت القفزة في إصدار الملاحق الأدبية والثقافية، فأصدرت النهار "الملحق" الذي أُسندت رئاسة تحريره إلى الشاعر أنسي الحاج الذي جعل منه مساحة للحرية الفكرية والاجتماعية والفنية. وأصدرت جريدة المحرر ملحقًا بعنوان "فلسطين" أشرف عليه غسان كنفاني، الذي نقل تجربته في الملحق إلى جريدة الأنوار.
ومن بين الصحف الرائجة في الستينات: لسان الحال وهي جريدة عريقة يعود إنشاؤها إلى عام 1878، وجريدة الجريدة التي أسسها جورج نقاش وجريدة الصفاء لرشدي المعلوف، وجريدة البيرق لملحم كرم. إضافة إلى الجرائد الحزبية: النداء للحزب الشيوعي، والحرية لحركة القوميين العرب التي صارت للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بينما امتلكت منظمة العمل الشيوعي صحيفة بيروت المساء. والأنباء التي أسسها كمال جنبلاط عام 1951، وجريدة العمل لحزب الكتائب، إضافة إلى صحيفتين تصدران باللغة الفرنسية L’orient التي أسسها جورج نقاش، وجريدة Le Jour التي أسسها ميشال شيحا، لتندمج الجريدتين الفرنسيتين في صحيفة واحدة، إضافة إلى مجلة La Revue du Liban الأسبوعية.
عكست الصحافة اللبنانية التنوّع والتعدد والحرية النسبية التي تمتع بها الكتّاب والصحافيون في كل شؤون السياسة المحلية والعربية. ومع ذلك دفعت الصحافة اللبنانية ثمنًا باهظًا باغتيال كامل مروة، ولم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي تدفع الصحافة أثمانًا باهظة وشهداء الكلمة الحرة.
في الفترة اللاحقة لحرب حزيران 1967، أصبحت الصحافة اللبنانية ناطقة باسم القضية الفلسطينية، وأفسحت المجال لزعماء المقاومة وقادة الفصائل أن يطلوا بأفكارهم وآرائهم من خلال الصحافة البيروتية. وعُرفت بشعراء المقاومة، وخصوصًا من خلال ملحق جريدة الأنوار الذي كان يشرف عليه غسان كنفاني.
ومن جهتها أصدرت جريدة النهار "الملف" وهو كتيب صحافي شهري يتناول واحدة من القضايا الساخنة عربيًا ودوليًا. وتابعت صحافة لبنان صعودها وانتشارها وتنوعها في السنوات التي سبقت الحرب عام 1975.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها